تبدو حكايتي وكأنها «سيناريو» مدروس الأحداث، لكنها غير ذلك، بل واقع مرّ وحقيقة عشتها ولا أزال أتجرع طعمها المر، لأنها تجري معي مجرى الدم، وأراها كل يوم تقاسمني ساعاتي فتزيد من آهاتي ومعاناتي. دهاء عمّاتي ومكر والدتي! لم أكن أهتم بالدراسة والتحصيل العلمي، لأنني أملك كل شيء، فماذا أفعل بالشهادة؟.. وظيفة بأجر زهيد لا يسدّ حتى حاجاتي اليومية، وقد تعودت على حياة البذخ، فأنا وحيدة والدي، الرجل الذي أفنى أجمل سنوات عمره في ديار الغربة، وحين شارف على الخمسين من العمر، أدرك أنه لا بد عليه من العودة إلى الديار، فتزوج والدتي وكانت حينها شابة في العشرين. وقد اختار لها أهلها هذا المصير، لأن عريسا في مثل مقام والدي لم يكن ليُرفض، أي نعم، كان يكبرها كثيرا، لكنه مرتاح ماديا، زد على ذلك لديه عقارات وممتلكات ورثها عن والده، علما أنه الرجل الوحيد بين عمّاتي اللواتي اخترن له والدتي، والغاية من ذلك أنها فتية ويمكنهن السيطرة عليها، لكن ذكاء والدتي ومكرها أفسد لهن كل الحسابات. كنت فتاة سلبية متواكلة لا تحسن إلا إنفاق المال! استطاعت والدتي بدلالها وأنوثتها الصارخة أن تجعل والدي رهن إشارتها، فتخلى عن الجميع مقابل أن يرضيها، وحتى شقيقاته طردهن من حياته، بعدما أقنعته بأنهن يرغبن في التفريق بينهما، وحين شاء الله وأتيت إلى هذه الدنيا، نشأت بعيدا عن أهل والدي، بعدما زرعت والدتي مختلف أنواع البغضاء والشحناء في قلبي. حقيقة لم أكن أحبهم، وكان يكفيني حب والدي، الذي وفرّ لي كل شيء وجعلني أعيش حياة الأحلام، وفي المقابل لم أقدّم له أي شيء، فقد كنت فتاة سلبية متواكلة، وأوامري كلها مطاعة ومستجابة. للعلم، فإن والدي عندما بلغت العشرين من العمر، كان في السبعين، وكانت والدتي في الأربعين. أردت أن أعيش مغامرة «كوالدتي» مع رجل سلب عقلي وقلبي لم أكن ميّالة إلى الجنس الآخر، لأن والدي كان بمثابة الأب والصديق والأخ وكل ما تحمله كلمة آدم من معانٍ، فاحتواني وأغرقني في الحنان، وبالرغم من ذلك، لم أستطع الصمود، ولم يكن في وسعي مقاومة ذلك الشوق الذي شدّني إلى رجل كان دائما يلاحقني ويعترض سبيلي مدعّيا حبه لي، رفضته في البداية، لكن شدّة إلحاحه وقوة إصراره جعلاني بعد فترة وجيزة خاتما في أصبعه. بدأت علاقتنا.. شابة في مقتبل العمر ورجل ناضج اكتسحت بعض الشعيرات البيضاء رأسه، مما زاده وقارا وتميّزا، كنت أرى فيه صورة والدي ونفسي وأمي، وأعجبني أن أعيش تلك المغامرة، أن أتزوج هذا الرجل ويكون لي وحدي، نعم، أردت أن أعيد التاريخ وأجسّده أمام عيني، لهذا السبب، فإنني اعتمدت كل الأساليب حتى لا يفلت من يدي الخيط وأبقى متمسكة به مدى الحياة. مات والدي قهرا.. بعدما سرقت ماله واخترت طريق الضياع وعدني بالزواج، ولكن عسر حاله منعه من ذلك، مما جعلني أمنحه المال من دون حساب، نعم لقد خنت ثقة والدي وسرقت ماله من أجل رجل يفيض قلبه قسوة وطمعا، ولأن والدي اكتشف ما حدث، وعلم بأن ابنته سرقته واختارت أن تمشي في طريق الضياع، مرض كثيرا ومن شدة قهره وحزنه فارق الحياة، ولم يؤثر موته كثيرا عليّ، لأن البديل كان في الانتظار.. رجل حياتي الذي سيعوّضني عن كل شيء. تركني ليتزوج والدتي طمعا في مالها طلب مني التريّث وعدم الاتصال به فترة حتى يندمل الجرح، وقال إنه مسافر في مهمة عمل، وحين عودته سيكلمني، فعشت على ذلك الأمل، وكنت مترددة كي أخبر والدتي، لأن الوقت لم يكن مناسبا، لكنني لاحظت عدم اهتمامها، فحتى أيام عِدتها كانت تخرج فيها وتلتقي مع صديقاتها وتستضيف قريباتها وكأنها تخلصت من والدي، الذي قبل أن يموت، تنازل عن كل ممتلكاته لنا بيعا وشراءً، وحرم أهله من الإرث وكل هذا من دهاء والدتي. سارت الأيام ومضت الشهور ولم يظهر رجل حياتي، وبعد فترة التقيته صدفة، فأسرعت إليه، فلم يكن متحمسا للقائي، وعندما سألته عن سبب هذا الجفاء، أخبرني أنه أعاد النظر في الأمر وقرر أن ينسحب، لأنه لا يناسبني ومن الظلم أن أقبر معه شبابي. نعم كان محقا في كل ذلك، لأنه تركني من أجل امرأة ثرية لديها من الأملاك والعقارات ما يكفل له حياة الأمراء، نعم كان محقا، لأنه استطاع أن يتسلل إلى قلب من هي أحسن مني مالا وجمالا.. وكنت مخطئة لأنني تعلقت بالأوهام وحسبت الخيال حقيقة.. نعم حقيقة تجسّدت الآن أمامي، ولم أستوعب الأمر إلى الآن من فرط الدهشة والذهول، فالمرأة التي تركني من أجلها هي أمي، التي اختارت أن تعيش الحياة بطولها وعرضها مع هذا الرجل، فهل تدري أنه لعوب وأنه تزوجها لمالها وليس لشيء آخر؟!