مازلت أروي قصص الوفاء والكرم عند العرب، ومنها قصة العباس صاحب شرطة المأمون مع معتقل سياسي خطير أوصاه الخليفة أن يحتفظ به ويحترز عليه كل الإحتراز ويأتيه به صباحا. تحفظ العباس على المعتقل في بيته زيادة في الإحتياط، وجرى بين الرجلين حديث طويل، فإذا الرجل من دمشق، وإذا هو صاحب فضل كبير على العباس ذات مرة قبل عدة أعوام إذ أنقذه فيها من موت محقق. ثم إذا به لا يطلب من رد الجميل إلا أن يسمح له العباس بمقابلة واحد ممن يعملون عنده في دمشق ليبلغه وصية الموت قبل إعدامه. قال العباس: قلت يصنع الله خيرا. ثم أحضر حدادا في الليل فك قيود السوري المعتقل وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره وألبسه من الثياب ما احتاج إليه. ثم سيّر من أحضر إليه غلامه. فلما رآه جعل يبكي ويوصيه. فاستدعى العباس نائبه وقال: عليّ بالفرس الفلاني والفرس الفلاني والبغل الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة، ثم عشرة من الصناديق، ومن الكسوة كذا وكذا، ومن الطعام كذا وكذا، وأحضر بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكيسا فيه خمسة آلاف دينار وقال لنائبه في الشرطة: خذ هذا الرجل (يشير إلى الدمشقي المعتقل) وشيّعه الى حد الأنبار. فقال السوري: إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم، وخطبي جسيم، وإن أنت احتججت بأني هربت، بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه، فأرد وأقتل. فقال العباس: أنج بنفسك ودعني أدبر أمري. فقال السوري: والله ما أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت الى حضوري حضرت. فقال العباس لنائبه في رئاسة الشرطة: إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا، فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته، وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد. قال الدمشقي السوري: فأخذني نائب رئيس الشرطة وصيّرني في مكان أثق به. أما العباس، رئيس الشرطة، فقد تفرغ لنفسه وجهز له كفنا. وقال العباس يروي ما جرى له بعد ذلك: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون: يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم. قال: فتوجهت الى دار أمير المؤمنين، فاذا هو جالس وعليه ثيابه وهو ينتظرنا. فقال أين الرجل؟ فسكت. فقال المأمون مرة أخرى: ويحك أين الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين اسمع مني. فقال: لله علي عهد لئن ذكرت إنه هرب لأضربن عنقك. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب، ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك ما تريد أن تفعله في أمري. قال: قل. فقلت: يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت، وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أفي له وأكافئه على ما فعله معي. ثم قلت: أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين فيما يفعله معي. إما أن يصفح عني فأكون قد وفيت وكافأت، وإما أن يقتلني فأقيه بنفسي وقد تحنطت وهذا كفني يا أمير المؤمنين. فماذا سيفعل المأمون يا ترى؟ الجواب غدا إن شاء الله تعالى.