لقد اعتمدت الحكومة مؤخرا، في 20 أفريل 2010، المشروع التمهيدي للقانون المتعلق بالعقار الفلاحي الخاص، التابع للدولة والموزَّع على المستثمرات الفلاحية. إن مشروع القانون هذا، والذي لم يتم إعلانه بعد، يثير عددا من التحفظات الوجيهة على مستوى تنظيمات المزارعين المهنية، وكذا المستفيدين من حقوق الإستغلال أنفسهم. ما هو محل تحفظ المستفيدين التحفظ الأول: يتصل بظروف إعداد مشروع القانون المذكور ذلك أن المستفيدين من الأراضي المعنية والتنظيمات المهنية ترفض إبداء موافقتها الآلية على مشروع قانون، يقولون إن إعداده تم في كنف السرية من دون التشاور مع المعنيين به في المقام الأول. يعتقد هؤلاء أنهم أثبتوا، مدى ثلاث وعشرين سنة، تعلقهم بأراضي دافعوا عنها دفاعا مستميتا، بما في ذلك مواجهة العنف الإرهابي. فحتى وإن كان هناك من المستفيدين من لم يحترموا التزاماتهم، فإن ذلك لا يبرر سوء تصرف الإدارة التي تُنكِر فضل هؤلاء المزارعين الذين لم يهجروا أراضيهم. التحفظ الثاني: يتعلق بإحلال حق الإمتياز لمدة أربعين سنة محل حقوق الإنتفاع الدائم. لذلك يفضل المستفيدون الإحتفاظ بوضعهم السابق، كما هو منصوص عليه في القانون 19-87 مع التمسك بحقوق يعتبرونها حقوقا مكتسبة غير قابلة للسقوط، لاسيما وأن حق الإمتياز في مشروع القانون الجديد غير واضح من حيث شروط تجديده. ومع ذلك، فإنهم يقبلون بإدراج تعديلات في القانون 19-87 بغرض تحسينه فعلا. تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن هؤلاء المستفيدين البعض منهم يتمتعون بمستوى تعليمي عالٍ يؤكدون أن مشروع القانون يتعارض مع مبدأين أساسيين يقوم عليهما القانون بشكل عام، ألا وهما مبدأ عدم رجعية القوانين ومبدأ عدم المساس بالحقوق المكتسبة. إن هذين المبدأين يشكلان أساس التشريعات الإقتصادية المعاصرة. التحفظ الثالث: يخص الكيفية المعتمدة في إسقاط حق الإمتياز. فإذا كان القانون 19-87 ينص على أن سقوط هذا الحق لا يمكن أن يقع إلا بحكم قضائي، فإن مشروع القانون الجديد يتيح إسقاطه بإجراء إداري عن طريق الديوان الوطني للأراضي الزراعية الذي تم إنشاؤه مؤخرا. لذلك، يعتبر المستفيدون والتنظيمات المهنية الفلاحية هذا الإجراء، من شأنه النيل من الأمن القانوني الضروري للنشاط الزراعي ويعرّض المزارع إلى عسف الإدارة. التحفظ الرابع: له علاقة بوضع المنشآت القاعدية، لاسيما منشآت الإستغلال المبنية وسط الأراضي الزراعية.هذه المنشآت يعتبرها القانون 19-87 ملكا خاصا للمستفيدين. أما مشروع القانون الجديد، فلا يعترف بحق ملكيتها، مكتفيا بفتح المجال لصاحبها للحصول على تعويضات وفق شروط محددة في حال عدم تجديد عقد الإمتياز. كما أن إيجار هذه المنشآت الذي يسمح به القانون 19-87،غير جائز في مشروع القانون الجديد. للتذكير، فإن المستفيدين يعتبرون أن مثل هذا الإيجار عندما يكون مبررا، يدرّ بمداخيل إضافية ضرورية للمستثمرة ؛ لكنهم يعترفون بضرورة اقتصار الإيجار على الأنشطة ذات الطابع الزراعي المحض. التحفظ الخامس: يخص غياب حل عملي بالنسبة إلى تمويل المستثمرة الزراعية. يعتقد المستفيدون أن مجرد التذكير بحق الرهن (droit d hypothèque) لدى البنوك غير كافٍ. فإذا لم يستطع القانون 19-87، بالرغم من أنه أكثر أمنا بالنسبة إلى المستفيدين، القضاء على الرفض الآلي لهذا الحق من طرف المؤسسات المالية، فما بالك بمشروع القانون الجديد الذي سيكون الحال فيه، من دون شك أسوء، نظرا إلى ضعف الضمانات التي سيتمتع بها المستفيد فيه. لذلك، يطالب المستفيدون والتنظيمات المهنية الفلاحية بوضع آلية للقرض تكون ناجعة فعلا لا مجرد شعار. تحفظات الخبراء إن الخبراء الإقتصاديون والزراعيون ممن تمّت استشارتهم لديهم، هم أيضا، بعض التحفظات حول مشروع القانون الجديد. التحفظ الأول: يتعلق بإدراج فكرة ''الشراكة''. حتى وإن كانت فكرة إدراج الشراكة أمرا إيجابيا، فإن الوضع القانوني لهذا الشريك غير واضح. هذا الشريك، شخصا ماديا كان أو اعتباريا، يبدو طرفا كامل الحقوق في المستثمرة حسب ما نفهم من نص هذا المشروع، لكن لا يمكنه المشاركة في حق الإمتياز في حد ذاته. وعليه، لا ندري ما هي نقطة التوازن بين المساهمة المالية أو التقنية المنتظرة من الشريك، ومدى الضمانات التي يمكن لصاحب الإمتياز أن يقدمها له. ولما كانت هذه الضمانات محدودة أصلا ومحصورة في فوائد الموسم الزراعي على الأقل، وجدنا الخبراء الذين استشرناهم متخوفين من إمكانية تحوّل هذا الشريك، في نهاية الأمر، إلى مجرد وسيط من المتعوّدين على شراء المحاصيل ''قبل قلعها''! التحفظ الثاني: يتصل بالتجزئة المزمع إجراؤها على المستثمرات الزراعية الحالية. ينص مشروع القانون الجديد على منح حق الإمتياز فرديا. لذلك، سيستطيع أصحاب الإمتياز في المستقبل، عند التحوّل إلى الوضع الجديد، المطالبة بحق إنشاء مستثمرة فردية.حقيقة، يشير مشروع القانون الجديد إلى أن المستثمرات الفردية التي يتم إنشاؤها ستخضع لمقياس المساحة، بحيث لا يجوز إنشاء مستثمرات فردية دون حد معين قانونا. رغم ذلك، فإن الخبراء المذكورين يعاقدون أن الأمر بالغ الخطورة. حجتهم في ذلك أن تجزئة الأراضي الزراعية قد تشكل تهديدا كبيرا على مسار عصرنة الزراعة في بلادنا. فما عدا بعض التجارب الإستثنائية، المتصلة بخصوصيات ثقافية ثابتة مثل ما هو الحال في الفيتنام، فإن جميع تجارب تجزئة الأراضي الزراعية عبر العالم قد انتهت بالفشل. الجوانب الإيجابية في مشروع القانون الجديد بالرغم من التحفظات المذكورة التي أدلى بها الخبراء، فإن هؤلاء يرون أن مشروع القانون الجديد فيه عدد من الميزات المهمة، نذكر من بينها تلك التي تخص رفع شرط الطابع الجماعي للمستثمرة. مشروع القانون الجديد يترك المجال مفتوحا، فعلا، لصاحب حق امتياز واحد الحصول على عدد غير محدود من حقوق الإمتياز، إذا كان الهدف هو تشكيل مستثمرة موحدة متواجدة في موقع واحد، الأمر الذي يسمح بتطوير الأراضي الزراعية وتحسين مردوديتها. لكن، من الغريب حقا، يشير الخبراء، أن ينطوي مشروع القانون الجديد على اتجاهين متناقضين في الوقت نفسه: اتجاه يستهدف ضم الأراضي وعصرنة النشاط الزراعي وآخر يدفع نحو تجزئة هذه الأراضي وتدهور طريقة استغلالها! حالات من الغموض في التدابير التطبيقية بصرف النظر عن الإعتراضات والتحفظات المذكورة منذ حين، هناك أيضا رجال قانون ممن تمت استشارتهم، يرون أن مشروع القانون الجديد ينطوي على حالات من الغموض، لاسيما من الناحية التطبيقية. إننا لنتساءل عما إذا لم يكن هذا الغموض مقصودا؟ مادامت التدابير المعتمدة بخصوص الإنتقال من وضع إلى آخر توحي، بطريقة غير صريحة، إلى أنه سيتم إسقاط حق المستفيدين من حق الإنتفاع الدائم ممن لم يسددوا من قبل مستحقات الدولة كلها عليهم. كما أن المستثمرين الزراعيين الذين تحصلوا على حصص في مستثمرات فلاحية بموجب التعليمة الوزارية الشهيرة الصادرة سنة 2002، قد تُرفض لهم، هم الآخرون، طلباتهم المتعلقة بتسوية أوضعاهم. القانون المتعلق بالمجاهدين وأبناء الشهداء مشار إليه فعلا في التأشيرات، غير أن هذه الفئة من المواطنين غير مذكورة ضمن المادة المتعلقة بتوزيع الأراضي الفائضة ! هل يتعلق الأمر بمجرد سهو ؟ حالة الغموض هذه نفسها تشمل مسائل أساسية، مثل شروط تجديد حق الإمتياز - حيث لا توجد تلك العبارة التي جرت العادة على إدراجها: ''تجديد العقد بصورة ضمنية'' أو طبيعة تنظيم المستثمرة - الشركة المدنية للإستغلال أو الشركة ذات الأسهم المحدودة (SARL). مشروع القانون تدبيرغير ناضج باختصار، يبدو أن مشروع القانون الجديد هذا يطرح صعوبات أكثر مما يحلها. هناك إجماع بين كل من المستفيدين والتنظيمات المهنية الزراعية والخبراء، على أن هذا المشروع ليس من شأنه تجاوز النقائص التي ينطوي عليها قانون 19-87. أولا، لا يأتي بجديد فيما يخص ضرورة توفير الأمن للمزارعين في ممارسة حقوقهم. إن حق التمتع بالإمتياز المحدود بمدة أربعين سنة وإمكانية إسقاطه من جانب الإدارة، يعتبران خطوة إلى الوراء مقارنة بالوضع السابق. وحتى وإن كان حذف اشتراط الطابع الجماعي للمستثمرة أمرا إيجابيا في مشروع القانون الجديد، إلا أن الإطار التنظيمي المعتمد في تسيير المستثمرة، لاسيما وضع الشريك والنظام الداخلي للمستثمرة كوحدة اقتصادية، يبقى غير واضح فيه. كما لا يوجد هناك أي اقتراح عملي فيما يخص حل معضلة تمويل المستثمرات. لذلك نقول إن مشروع القانون الجديد لا يقدم الأمور بقدر ما يؤخرها، بل وقد يكون سببا في الكثير من النزاعات العويصة في المستقبل. الجدير بالذكر، أن المستفيدين الحاليين يتخوفون من أن يكون الهدف الحقيقي من مشروع القانون الجديد هو طردهم، بطرق ملتوية، من الأراضي التي يستغلونها منذ مدة طويلة لفتح المجال أمام برجوازية طفيلية متربصة. مشروع القانون الجديد في ضوء الإعتبارات السياسية يرى المختصون في هذا الميدان، أن الفهم الجيد لحيثيات مشروع القانون الجديد هذا، يقتضي النظر إليه من الناحية السياسية. بداية، تبدو الحكومة ماضية في تمرير هذا القانون ولو بالقوة، متذرعة بتعليمات رئيس الجمهورية الذي يكون قد بت في الجوانب محل الخلاف. يقال إن رئيس الجمهورية قد دعا، من جهة، إلى العمل بحق الإمتياز في منح الأراضي الزراعية صونا لها من الخوصصة، ومن جهة أخرى، إلى قبول تجزئة المستثمرات الجماعية سعيا إلى إرضاء المستفيدين أنفسهم. مثل هذه الحجة غير مقنعة نظرا إلى ما يُعرَف عن رئيس الجمهورية من روح براغماتية جعلته، سنة 2005، يلغي قانون المحروقات الشهير بعد صدوره عندما اقتضى الأمر ذلك. وربما بصرف النظر عن طابع الملكية العمومية للأراضي الفلاحية الذي يبدي الرئيس بشأنه تعلقا عاطفيا، فإنه لا يبدو متشبثا بمذهب معين فيما يخص طرق تسيير الإقتصاد الوطني. إن الحكومة هي التي عليها أن تتشاور مع المتعاملين في الميدان، وتقترح حلولا تحظى بأكبر قدر ممكن من الإجماع. في هذا السياق، إنه لمن المحيّر فعلا ألا تفهم الحكومة أن الخيارات الإستراتيجية المتصلة بالثروات الوطنية والأراضي الفلاحية في مقدمتها لا يمكن أن تكون إلا قائمة على إجماع وطني. وعليه، أين تكمن المناورة ؟ إن الحجج القانونية التي أدلي بها هنا وهناك لا يمكنها أن تخفي تلك الحرب السياسية الدائرة رحاها بين جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، من أجل الإنفراد بالسيطرة على العالم الريفي. إن التجمع الوطني الديمقراطي بوصفه منافسا لدودا لجبهة التحرير الوطني لا يمكنه أن يجهل، كون الفلاحين قد شكلوا دوما القاعدة الطبيعية التي استندت إليها أنظمة الحكم المتعاقبة في الجزائر. هذه المعاينة تبدو أهميتها جليا إذا راعينا أن هناك مواعيد انتخابية حاسمة تلوح في الأفق. إن تسليط الضوء على المسألة من الناحية السياسية، هو الذي يبرز ترتيب الأولويات في النقاش الدائر حاليا حول الأراضي الزراعية التابعة للدولة. وعليه، نقول ليست الإشكالية الإقتصادية هي التي تتحكم في هذا النقاش بقدر ما هو المنطق السياسي كي لا نقول السياسوي. وإلا كيف يمكننا أن نفسر كون التنظيم الزراعي الذي يقوده قايد صالح، والمنتمي إلى التجمع الوطني الديمقراطي، يقف ضد مشروع القانون الجديد، معبرا عن موقف متعارض تماما مع موقف الحكومة ؟ كيف يمكننا، أيضا، أن نفهم ذلك التأييد المحتشم الذي يطبع موقف الإتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين، القريب من جبهة التحرير الوطني، لمشروع الحكومة ؟ لاشك أن المستقبل القريب سوف يكشف لنا مسار هذا المشروع وعواقبه على مستوى الساحة السياسية. من المؤكد أن الإتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين، سيكون هو الخاسر الكبير، في حال عدم تقربه من المزارعين في الميدان من أجل التعبير عن انشغالاتهم وتطلعاتهم. التطورات المرتقبة لنفترض أن مشروع القانون المذكور سيتم اعتماده، لكن تطبيقه في الميدان قد يلقى عراقيل كثيرة، ويكون مصدرا للعديد من ردود الفعل العنيفة أو على الأقل من النزاعات التي لا أول لها ولا آخر. لا يبدو أن المشروع أخذ بعين الإعتبار الكافي، الأمور الإجتماعية المتصلة بتطبيقه. هل قام المبادرون بهذا المشروع بقياس دقيق لقدرة العالم الريفي على تقبل الإصلاح الذي يتضمنه؟ ألا يمكن أن تؤدي الطريقة التي انتهجتها الحكومة في فرض مشروع القانون بالقوة، عوض الإقناع إلى إشعال النار في مجتمع ريفي يظل هشا؟ من البديهي أن النص الحالي، والذي تمت صياغته بنوع من التسرّع في حاجة إلى النضج. الأمر الذي سيسمح للحكومة، عوض اللجوء إلى القوة في فرضه، بالإعتماد على إقناع المعنيين به. لعل رئيس الجمهورية ذاته، والذي ينوي المزارعون إيصال انشغالاتهم إليه، لن يلبث أن يستجيب إلى هؤلاء، فيمنع من أن تتحوّل الزراعة الجزائرية إلى رهينة للمناورات السياسوية. إن الحكمة تقضي بأن يتم إنشاء هيئة متخصصة مؤقتة، تابعة مباشرة إلى رئيس الجمهورية، هيئة تعمل في الهدوء والصرامة في أداء مهمتها المتمثلة في تحديد الشروط الكفيلة بالنهوض بالزراعة الوطنية في ظل مبدأي العدالة الإجتماعية والعقلانية الإقتصادية.