تكشف الحقائق أن 98 من المائة من اليهود الذين يرقدون في المقبرة اليهودية الكائنة في بلدية بولوغين بالعاصمة هم من أصول جزائرية، منهم من فضل المغادرة بعد الإستقلال وآخرون ظلوا متجذرين بأرض الجزائر ،على غرار عائلة أبو الخير وبلعيش، غير أنه وبمرور الزمن أصبح اليهود يختبئون ويخفون أصولهم اليهودية. وأصبح يهود الجزائر يدخلون إلى الجزائر بجواز سفر فرنسي للتمكن من زيارة ذويهم في مقبرة اليهود ببولوغين، أو يدّعون أنهم من الأقدام السوداء التي عاشت في الجزائر في الفترة الإستعمارية، غير أن التواجد اليهودي فى الجزائر استمر إلى أكثر من 2000 سنة وبقي مستمرا إلى غاية 1962، عندما اختارت الأغلبيية الساحقة الهجرة أو الرحيل لأن ثورة التحرير أحدثت شرخا بين الجاليات اليهودية لم يصمد أمام موجات الترحيل إلا القليل من العائلات، مثل عائلات بلعيش وأبو الخير وسلمون ورحيلهم لم يكن مبررا، لأن اتفاقيات » إفيان « كانت تضمن مصالح وحريات الأقليات وكان هذا الرحيل أسوأ قرار لهم.. أما الباقون فلم يندموا على البقاء مثل عائلة بلعيش التي تقيم في الجزائر منذ أكثر من ثلاثة قرون. أحجار منحوتة.. والحويك لتغطية القبور وبمجرد أن وطأت أقدامنا المقبرة الإسرائيلية الكائنة في حي مالكوف في بلدية بولوغين بالعاصمة، خيل لنا أن الزمن عاد بنا إلى الوراء وتحديدا إلى العهد الروماني، بسبب الأشكال الجميلة التي تتخذها قبور اليهود، بنيت بمادة الرخام والقرانتين، وتزينها النباتات التي جعلت من المقبرة جنة فوق الأرض، ومازاد من روعة المكان هو الموقع الإستراتيجي الذي يحتله، حيث أن المقبرة تتوسط غابة الكاليتوس كثيفة الأشجار وتقابلها زرقة مياه البحر. وكان رفقة ''النهار'' وهي تتجوّل داخل المقبرة اليهودية في بولوغين، أحد مسيري المقبرة اليهودية الذي حدثنا عن بعض الطقوس التي يمارسها اليهود، سواء عندما يتعلق الأمر بعملية الدفن أو خلال زيارتهم لقبور موتاهم، حيث أخذنا إلى مربع يرجع إلى ''عائلة بلعيش '' اليهودية التي تقيم منذ آلاف السنين في العاصمة وتعتبر من أغنى العائلات العاصمية، أين لا حظنا وجود مجموعة من الحجارة الصغيرة فوق القبور، مما يدل على أن المعني لم يمر عن زيارته سوى أسبوع من الزمن، مشيرا إلى أن العديد من الطقوس التي يمارسها بنو إسرائيل ذات الطابع الشعبي في دفن موتاهم تشبه عادات العرب، مستندا في ذلك إلى توجيه رأسه نحو القبلة وغسله ودفنه من غير تابوت، وعدم وضع التماثيل في القبور ، غير أن محدثنا استغرب عادات أخرى لليهود منها رمي عملات في الجهات الأربعة للقبر وهي عبارة عن رشوة للأرواح الشريرة حتى تحل عن الميت وتتركه يرقد في سلام، ومن العادات والطقوس التي يمارسها اليهود صلاة » الإشكناز « ويطلب فيها الغفران والرحمة للميت، ومن أغرب عادات اليهود هو مرور الأرملة في حال ما إذا كانت حبلى من تحت نعش والد جنينها، ولا شك أن هذه الطقوس والعادات مستمدة من عادات وتقاليد الشعوب والحضارات التي عاشت بينها الجماعات اليهودية، وهو ما يفسر اختلاف عملية الدفن بين يهود البلاد العربية ويهود أروبا. ويولي اليهود اهتماما كبيرا بموتاهم، حيث يطلقون على المقبرة تسمية ''بيت الأزلية'' أو ''بيت الأحياء''، حيث يحضى مكان دفن الموتى بأهمية قصوى أكثر من المكان الذي يعبد فيه الإله، وتصرف أموالا طائلة في عملية الدفن خاصة وأن اليهود يشترون أراضٍ خاصة لدفن مواتهم، على غرار المقبرة اليهودية ببولوغين التي يسيرها أحد اليهود المقيمين في الجزائر، ويتعلق الأمر بعائلة بلعيش إحدى أعرق العائلات اليهودية في الجزائر، حيث أن هذا الأخير يسعى إلى تسيير المقبرة التي تشرف على تسييرها مديرية المقابر وتسير الجنائز. ألقاب عائلات عاصمية معروفة في مقبرة اليهود تحمل القبور اليهودية في المقبرة ألقاب لعائلات جزائرية معروفة على غرار عائلة بن يونس، تميم، سلطان، بن حمو، بن زكري، شقرون، العشعاشي وطاوس وأبو كايه، حيث يحمل كل قبر صورة المتوفى ونبتة الزعفران، وطريقة بناء القبور تدل على حجم الثراء الذي عاش فيه المتوفى والمكانة المرموقة للعائلة في المجتمع، وهو الأمر الذي أكده الدليل حيث توجد قبور لعائلات غنية وأخرى فقيرة، ويمكن تمييز الفرق من خلال طريقة بناء القبر، فيما تتوسط المقبرة نجمتا داوود، والغريب في الأمر أن يهود الجزائر يستعملون طقوسا موحدة في طريقة الدفن على غرار وضع مزهرية حجرية فوق القبر، غالبا ما تكون مغطاة بقطعة قماش مزركشة تدعى » الحويك « في الجزائر العاصمة، وتستعملها العروسة لتغطية رأسها ليلة الحناء حتى تحتجب عن الحضور، بهدف عدم إظهار زينتها التي يفترض أن تظهر بها يوم زفافها. وغير بعيد عن أحد المربعات التي كنا نقف بجوارها، شدت انتباهنا بناية تشبه مقام سيدي عبد الرحمن في العاصمة، وهو تقي ووالٍ صالح تقصده العائلات الجزائرية للتبرك، وبالمقابل فإن المقام المشيد داخل المقبرة فهو يخص رهبان من بني إسرائيل، يضم قبرين ويحج اليهود إليه قصد التبرك والدعاء، ليضيف دليلنا أنه أصبح يرفض فتح الضريح لممارسة الشعوذة، مستشهدا بقصة إحدى العائلات اليهودية التي جاءت لزيارة أحد القبور وطالبت منه فتح الضريح لإشعال شموع والدعاء، غير أنه استغرب الأمر خاصة وأن السيدة كانت تبدو محترمة جدا، خاصة وأنها كانت تتكلم الفرنسية بطلاقة حتى أنك تظن أنها من علية القوم، مما يصعب على العقل تقبل ممارستها للشعوذة ليرفض بشدة طلب المرأة الأجنبية. عائلة ويدير.. نرفض التطبيع مع إسرائيل لكننا نرقد معهم ونحن نهم بالخروج من المقبرة اليهودية رأينا شابا وسيما في أتم أناقته يتجول بين القبور، في البداية تصورنا أنه من بني إسرائيل جاء في زيارة لذويه، الأمر الذي حفزنا على الإقتراب منه لمعرفته، غير أن ظننا لم يكن في محله فهو جزائري الأصل، غير أن القدر شاء أن يولد منذ تسعة وعشرين سنة في بيت يتوسط القبور، لكن أي قبور فالقبور تعود إلى بني إسرائيل، وبمرارة قال الشاب » ويدير « أن تسكن عائلة جزائرية مسلمة داخل مقبرة يهودية ليس بالأمر السهل، في ظل الذهنيات السائدة، حيث نرفض التطبيع والتعامل مع اليهود نظرا إلى الصراع القائم بينهم وبين المسلمين منذ اغتصابهم للأراضي الفلسطينيين سنة 1948، وبالنظر إلى الخبث الذي تتميز به هذه الشريحة من الجماعات العبرية، مشيرا إلى الأشباح والأرواح الشريرة التي تسكن بالقرب منهم وتقاسمهم المكان التي تحيط بمنزلهم، وبدت ملامح الحسرة والإكتئاب على محيا الشاب ''ويدير''، الذي أكد أن الحياة بجوار موتى اليهود أضحت مستحيلة، حيث كان في كل مرة يحاول هجر منزله يتراجع بسبب إشفاقه على أمه المريضة وإخوانه الخمسة، مطالبا من السلطات العليا ترحيلهم، وكان لوالد السيد ويدير، أن عمل في السابق كحارس للمقبرة وقد استفاد من المنزل. سفراء أمريكان وإيطاليون في المقبرة اليهودية وبالرغم من أن طقوس الدفن لدى اليهود تختلف عن نظيرتها المسيحية، إلا أن ''النهار'' وقفت عند ظاهرة غربية في المقبرة المسيحية حيث شهدت اختلاط القبور، لتبقى نقطة الإستفهام حول أسباب دفن اليهود في المقبرة المسيحية، ومن الشخصيات التي ترقد في مقبرة النصرة كما يحلو لأبناء بولوغين تسميتها ،نجد العديد من السفراء الأجانب على غرار السفير الإيطالي » ميشال موديديك « الذي توفي سنة 1925، ونظيره الأمريكي » الكسوندر جوزيف « الذي غادر الحياة خلال 1884، وقصة القائد الثوري » ايفتون « الفرنسي الذي دافع بقوة عن القضية الجزائرية، وأغرب من الخيال خاصة وأن فرنسا نفذت فيه حكم الموت بالمقصلة في سجن سركاجي بالعاصمة، غير أن المجاهدين الجزائريين لم يتنكروا للشهيد، حيث يقومون بزيارته ويقومون بوضع أكاليل من الورد خلال الأعياد الوطنية. الحج إلى الجزائر في شهر ماي من كل سنة تزامنت زيارة ''النهار'' لإجراء الربورتاج حول يهود الجزائر مع فترة حج اليهود إلى الجزائر وتحديدا إلى منطقة تلمسان التي أصبحت قبلة للحجاج اليهود، بعد أن عالج الراهب ابنة السلطان للمعبد والراهب الأكبر ''أفرايم أنكاوا''، وهي قصة جعلت منه قبلة لليهود يحجون إليه في شهر ماي من كل سنة، وتستغرق فترة الحج ثمانية أيام، ستة يزورون خلالها المقبرة، ويخصص اليوم السابع للوقفة في المعبد وقراءة الزابور على قبره ويشعلون الشموع، بأزياء يهودية وطاقية اليهود والضفائر، بالنسبة إلى الرجال، أما النساء فيغطين رؤوسهن وتكون ألبستهن طويلة، وبعد تلاوة الزابور يشربون من العين التي توجد أمام قبر الراهب الأكبر ثم يقومون بذبح خروف، وفي اليوم الثامن ''يوم الوداع'' يغادرون الجزائر.