تسترجع الجزائر اليوم ذكرى أليمة على الشعب والأمة تخلد تضحيات الشعب الجزائري في سبيل الحرية والإستقلال، ويمثل الثامن من ماي 1945 محطة هامة لفضح جرائم الإستعمار الفرنسي في حق الجزائرين، لا لشيء سوى أن شعبنا خرج يطالب بحقه القانوني والإنساني في تقرير المصير، بعد انتصار الحلفاء على النازية ودحرها في نهاية الحرب العالمية الثانية. ما زالت المحرقة بنواحي ڤالمة شاهد عيان على ما اقترفه الفرنسيون من فظاعات في حق المدنيين العزل، وتم القمع في 8 ماي 1945 بوحشية مع أن مظاهرات الشعب الجزائري كانت سليمة لا تحمل سوى شعارات الحرية والإستقلال، لكن غلاة الإحتلال الفرنسي أطلقوا الرصاص على المتظاهرين الذين كان يتقدمهم الشهيد الشاب سعال حامل الراية الوطنية فسقط على يد رصاص الغدر لتشتد المظاهرات ويتحول المشهد السلمي إلى حمام من الدماء وتمتلئ كل الشوارع والطرقات بالجثث. لقد كانت ملحمة أوّل نوفمبر ولا تزال تلك الثورة التحريرية التي خاضها الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني فتحدى بها المستعمر وأسمع من خلالها صوت الجزائر للعالم أجمع. وإن كانت الثورة التحريرية حلقة هامّة من مقاومة قادها خيرة أبناء الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، والتي كللت بالاستقلال بعد 132 سنة من الاحتلال، فهي مسيرة مملوءة بالأشواك أبلى فيها الجزائريون البلاء الحسن وشقت قوافل الشهداء الأبرار والمجاهدين البواسل دروب الحرية المدرجة بالدماء الطاهرة والأرواح الغالية التي دفعها الشعب الجزائري الذي كان بذلك عظيما بعظمة هذه الثورة، التي شملت كل فئات الجزائريين الذين هانت أرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون من غال ونفيس من مال وولد من أجل أن تبزغ شمس الحرية. فالجزائر مهد للمقاومة وتتميز كل منطقة بعطاءات وتضحيات ومساهمتها في ثورة نوفمبر، ومن هذه المناطق منطقة حدودية غربية كانت خلال الثورة التحريرية عبارة عن قطعة من جهنم المنطقة المحرمة، الأسلاك الشائكة بخطيها الكهرباء ذي الطاقة العالية، الدبابات في كل مكان، مدافع الميدان، المحتشدات، المكتب الثاني في كل مكان، الحركة القومية، الصاص (S.A.S).. فالسماء لا تهدأ بضجيج الطائرات، فعندما يكشف العدو تحركات المجاهدين حيث يحاولون اجتياز الحدود تهتز الأرض تحت وطأة انفجار القنابل، وكانت قذائف النبالم تفعل فعلتها الشنيعة، فحين تسقط في أي مكان يلتهب كل شيء، زيادة على الألغام الرهيبة التي كانت تغدر بنا، ولكن في الواقع يجب أن لا نخفي وجوهنا حين يهاجمنا البكاء عن رجال راحوا ضحية لهذا الوطن العزيز، ومع ذلك كان هناك رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه، فالفرنسيون استعملوا كل الوسائل لمنع المجاهدين من التسلل من وإلى خارج الجزائر، حيث كانت الحدود الغربية هي النقطة الوحيدة التي غابت عن المخابرات الفرنسية، حين كانت ترسو البواخر محملة بالأسلحة بالناظور المغربية، حيث تسلحت عدة كتائب بأنواع الأسلحة التالية، فعندما تفطنت القوات الاستعمارية سارعت إلى وضع الأسلاك الشائكة والمكهربة (شارل وموريس) لتطويق الثورة الجزائرية، وأضحت الحدود الغربية وقودا للثورة الجزائرية، وكانت الوسائل المفضلة هي قنابل النبالم المحرم دوليا. فتلك السلسلة الجبلية الممتدة من بني صاف إلى مرسى بن مهيدي كانت عبارة عن خط الجحيم، فتقابلها السلسلة الجنوبية من جبال الأطلسي والممتدة من سيدي بلعباس إلى جبال عصفور المحاذية للحدود الجزائرية المغربية، والتي أضحت هي الأخرى عبارة عن جبال تصدي بكل شموخ لأولئك الذين تدعمهم قوات الحلف الأطلسي، فالمخططات والكتب القديمة تشير إلى أن الأمير عبد القادر فارس الثورة المجيدة اتخذ منطقة بني سنوس قلعة حصينة للتمركز والتنظيم والتدريب، وبالتالي فإن فرنسا جمعت قواتها في عدة محاولات للسيطرة على بني سنوس والتي دامت مقاومتها سبع سنوات قبل أن تتمكن في عمليات حصار وتمشيط من حرق 500 خيمة بجبل منطقة (أصليب) وتخريب وتدمير عشرات المنازل والقتل الجماعي للشيوخ والنساء والصبيان، وذلك بدار بلقاسم مصطفى حتى صارت جداول المياه آنذاك ملطخة بدماء هؤلاء الأبرياء. وفي سنة 1859 عرفت بني سنوس ثورة شاملة ضد الاحتلال الفرنسي تلاحمت من انتفاضات أخرى من الجنوب الشرقي، حيث استمرت إلى غاية ثورة الشيخ بوعمامة وبذلك جعلت منطقة بني سنوس تحت الحكم العسكري وصارت تابعة لإدارته كباقي مناطق الجنوب الجبلية وتابعة للحكم العسكري بالعريشة، ثم تابعة إلى مكتب شؤون الأهالي بمنطقة مغنية، وشارك سكان المنطقة من الحركة الوطنية السياسة وتأثر بها من نجم شمال إفريقيا إلى حزب الشعب الجزائري إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية ثم المنظمة السرية وجمعية العلماء واللجنة الثورية للوحدة والعمل. وعاشت الجهة المذكورة صراعات دامية أثناء الانتخابات السياسية، واكتسب رجال المنطقة خبرات عسكرية وحربية بتجنيدهم الإجباري من السلطات الفرنسية للمشاركة في الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب الهند الصينية، ونظرا لهذه الخبرات الحربية ورفض السيطرة الاستعمارية وانتشار الوعي السياسي واستراتيجية المنطقة، فقد كانت عوامل ثقة وآمال في احتضان وحماية التنظيم السري الثوري الدقيق وتفجير الثورة بهذه الجهة التي تلجأ إليها، وعاش بها خاصة العربي بن مهيدي وبوصوف عبد الحفيظ والكثير من قادة الثورة الأوائل، وذلك قبل وبعد تفجير الثورة المسلحة. وحسب شهادة بعض المجاهدين والمناضلين الأوائل بالجبهة وغيرها، فإن القيادة الثورية أعطت أوامرها الصارمة للمحافظة على سرية تحضير الثورة، وألا تلفت أنظار العدو للمنطقة، وبالرغم من ذلك فإن بني سنوس وعلى غرار الجهات الأخرى قامت ليلة أول نوفمبر 1954 بعمليات تخريبية قبل أن تتدخل قيادة الثورة التي أمرت المجاهدين بعدم الدخول في معارك حربية مع العدو، حتى لا يعزز قواته العسكرية بالجبهة في انتظار قدوم الأسلحة من الخارج من مصر وتونس وغيرهما، وبذلك جعلت قيادة الثورة من القسم الرابع للمنطقة الخامسة أي الولاية الخامسة منطقة تدريب الأفواج لجيش التحرير الوطني على الأسلحة ومختلف فنون القتال، كما جعلت من نفس جبال منطقة بني سنوس قاعدة لتخبئة المؤونة الحربية والأسلحة، خاصة تلك القادمة من الخارج عن طريق الحدود المغربية والإسبانية خلال سنتي 1955/1956: وبعد التدريب العسكري الدقيق وتسليح فصائل جيش التحرير الوطني بالمنطقة، أمرت القيادة الثورية للولاية الخامسة بإرسال فصائل جيش التحرير والمسبلين في دفوعات متتالية بالأسلحة والمؤونة والذخائر الحربية القادمة من الخارج، بغية التزويد بالسلاح من أجل التنسيق الحربي ووحدة العمل الثوري المشترك ضد العدو المستعمر. كما شهدت بعض الأماكن بمنطقة بني سنوس عدة معارك متتالية خلال سنوات الحرب من هذه المعارك الناجمة رغم تفوق العدو عدّة وعتادا، نذكر تلك التي وقعت في أكتوبر 55، حيث هاجمت وحدات المجاهدين مقر الخميس بإيعاز من قائد البلدية، وتم الاستيلاء على صندوق مالي به ستة ملايين ونصف مليون فرنك فرنسي قديم من جباية الضرائب المفروضة على المواطنين من طرف السلطات الاستعمارية، حيث تم بهذا المال شراء الأسلحة والتموين وسد بعض مصاريف جبهة التحرير الوطني بالمنطقة. وفي انتظار إرسال النجدات العسكرية الفرنسية للمنطقة أسرع المكتب الخاص (S.A.S) إلى إنشاء فرق الدفاع الذاتي للقرى والمداشر المتناثرة في المنطقة فكانت بشرى للثورة، حيث سارعت القيادة الثورية للولاية الخامسة بالتعيين والسماح لبعض المناضلين في جبهة التحرير الوطني بقبول التجنيد في صفوف الدفاع الذاتي (القومية) وعندما تم تسجيلهم وتدريبهم على الأسلحة ومختلف فنون القتال، أمرتهم القيادة الثورية بالالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني بالجبال وكان عددهم يزيد عن المائة شخص، فكانوا سندا قويا للثورة وضربة قاسية لفشل سياسة (la S.A.S)، فجن لذلك جنون العدو وأرسل قوات عسكرية كبيرة في عملية تمشيط وحصار للمنطقة، فأسرع المواطنين إلى تخريب الطرقات والجسور وقطع أعمدة الهاتف والكهرباء لوقف زحف قوات العدو المعززة بالدبابات والمصفحات التي تحميها الطائرات، وفي 5 مارس من نفس السنة وقعت معركة “بوحمام” المشهورة بين منطقة دار عياد وبني زيدان قرب بني عشير التي تبعد ب5 كلم عن مقر بلدية الخميس فكانت نتائجها 75 قتيلا و40 جريحا في صفوف العدو وتحطم طائرة، ومن جانب جيش التحرير استشهد مجاهدون، كما حطم أحد المسبلين رأس جندي فرنسي صاحب المدفع الرشاش ب “الشاقور”، مع استشهاد ستة مدنيين آخرين حسب تقرير القيادة الثورية للولاية الخامسة وجريدة المجاهد 1956، وقصفت قرى بني زيداز ودار عياد وبني عشير وحطمتها عن آخرها، وذهب الأطفال والشيوخ والنساء انتقاما لخسائرها في المعركة، كما جعلت فرنسا من هذه القرى مناطق محرمة فالتجأ سكانها إلى الجبال والحدود المغربية الجزائرية والباقي جمع في محتشدات عسكرية.