في خضم النزاعات المذهبية التي يشهدها العالم سيما مع بداية الألفية الثالثة وظهور مصطلحات تعبر عن المناهج الفكرية المتعددة كحوار الأديان والحضارات ومجالات الحد من خطورة هذه الصراعات وانعكاساتها السلبية على الأفراد والمجتمعات لكونها تعد تهديدا صارخا لبنية الفكر وترسيخ المعاني السامية لروح الإنسانية المهددة في وحدتها وانسجامها، جاءت هذه المحاولات بهدف التخفيف من حدة التوتر والعمل على إرساء معاني السلم والتسامح باعتباره المقياس الأساسي لنهضة الأمم وبناء الإنسان. ومن هنا جاءت الدعوة العلمية الجادة لتنظيم ملتقيات وطنية تخليدا لذكرى رحيل العلامة “سي عامر محفوظي” وهي دعوة لاحتضان الأفكار البناءة تحت شعار “دور العلماء في نشر ثقافة التسامح” من خلال الدعوة لتقبل الآخر ونبذ كل أشكال التعصب والصراع، في ظل ظهور سيل من الفتاوى عن جهل، والجهل يولد الشر، وشر البلية الفتوى بغير علم.«السلام اليوم” وعلى هامش أشغال الملتقى الوطني الأول، حاولت رصد أهم ما جادت به مداخلات العلماء والأساتذة وشيوخ الزوايا من خلال التطرق إلى موضوع التسامح باعتباره قيمة أخلاقية سامية دعت إليها جميع الديانات السماوية، أثرها في البناء الإنساني، وتأثيرها على أمن وإستقرار الشعوب والأمم، حيث أجمعت كل الآراء التي أسهمت معنا في هذه الجلسة على ضرورة السعي الجاد والبناء للتأسيس لفكر نخبوي أكاديمي يعمل على ترسيخ خلق التسامح ونبذ كافة أشكال التعصب سواء فكري أو مذهبي. الأستاذ الدكتور محمد بن بريكة البوزيدي الحسني (أستاذ الدراسات العليا بجامعة الجزائر وعضو في الأكاديمية العالمية للتصوف بالقاهرة) تمحورت مساهمة الدكتور معنا حول إشكالية العلاقة بين التصوف وموضوع الملتقى من جهة، ودور الطرق الصوفية في حوار الديانات، حيث أكد “إن حوار الأديان ضرورة دعت إليها طبيعة العلاقات بين الشعوب والدول، وهو لا يعني إطلاقا التفريط في العقيدة الدينية بالنسبة للمسلم وإنما هو إجتماع مع الآخر لمعالجة ما حل بأهل الديانات السماوية من آفات كالجهل والمرض والفقر والإلحاد”، ويضيف “هناك علاقة وثيقة بين التصوف وحوار الحضارات، وكذا بين التصوف وخلق التسامح الذي هو شعار ملتقانا هذا، فالتصوف دعوة لبناء الإنسان وتنقية باطنه وتربيته على الأخلاق الكريمة وفي تقديري – يضيف – أن الزوايا والطرق الصوفية وعددها حوالي 320 طريقة لعبت دورا رياديا في إقامة علاقات التسامح وتقبل الآخر بين الأفراد والشعوب والحضارات بعد أن كانت السباقة لنشر الإسلام بأحكامه الشرعية المبنية أساسا على روح التسامح بالمعاملات الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وما ينتظر الجزائر في المرحلة القادمة يتطلب من شيوخ الزوايا ورجال الطرق الصوفية مضاعفة الجهد لتكريس خلق التسامح كمنهاج تسير وفقه الأمة بإعتباره عمادا لكل بناء وطني وحضاري ومن هنا نلتمس أن يتم تخصيص جائزة سنوية لملتقى العلامة الراحل سي عامر محفوظي لتكون حافزا للمجتهدين في حقل البحث المعرفي ونشر ثقافة بناءة قوامها التسامح خدمة للدين والوطن”. الأستاذ الدكتورعلي ملاحي (رئيس اللجنة العلمية وأستاذ بجامعة الجزائر) حول الأهداف المراد تحقيقها من خلال عقد مثل هذه الملتقيات، جاءت مساهمة الدكتور على ملاحي معنا من خلال التأكيد على أن “الملتقى يتضمن دعوة علمية جادة لاحتضان الأفكار البناءة في المجتمع الجزائري واستثمارها في الفضاء الثقافي للأمة من خلال نفض الغبار على النراث المادي والمعنوي للمنطقة، خاصة وأن الشيخ سي عامر يعد أحد أقطاب التراثية لمنطقة الجلفة، وكذا تشجيع ثقافة الحوار وترسيخها بإحترام الرأي الآخر ضمن إستراتيجية بناءة هادفة بفضل الإنفتاح على الكفاءات العلمية والفكرية والإستفادة من أفكار الأساتذة الباحثين وشيوخ الزوايا باعتبارهم أسرة واحدة خصبة، وما قدمه الشيوخ يعد مرجعا يجب الإستثمار فيه مع المحافظة على قدسية الزاوية، واعتبار ما تقوم به وما تؤمن به رصيدا ثقافيا وعلميا وفكريا لابد من المحافظة عليه، كما نهدف من خلال هذه الملتقيات إلى تنمية قيم التسامح بين مختلف الحساسيات وتجاوز الرؤية الضيقة أو الفوقية مع ضرورة إبراز الدور الريادي لعلماء الجلفة في الحركة الفكرية والإجتماعية الوطنية ومساهمتها الفعالة في إرساء ثقافة السلم والتسامح وبعث الوعي الديني السليم بين أفراد المجتمع مع تنبيه جاد بأن الأمة الجزائرية لا تبنى إلا بسواعد وأفكار أبنائها المخلصين بكل طوائفهم، لأن الإخلاص العلمي هو الرصيد الأساسي الذي تحل به جميع المعضلات الفكرية والمذهبية، فالإسلام دين الجميع لكونه يتضمن دعوة صريحة إلى التسامح والتصالح لإعلاء كلمة الحق والعدل في ظل الإحترام المتبادل وجمع الفعاليات العلمية والثقافية بعيدا عن كافة أشكال التعصب لرفع همة الأمة”. الأستاذ الدكتور رتيمة (محمد العيد – جامعة الجزائر) شكل موضوع التسامح والعفو وأثره في تجسيد سياسة السلم والمصالحة الوطنية محور إسهام الأستاذ رتيمة حين أكد على أن “القيمة الخلقية للتسامح هي فعل ثنائي حادث منك إلى غيرك أو من غيرك إليك، وهو مصالحة بين طرفين بغض النظر عمن كان البادئ بالمجافاة، ومن قابل ذلك من جنس العمل، على ألا يكون هذا التسامح ظاهريا لأن الدلالة الثنائية على مفهوم المفاعلة هما: أن يكون منك إلى غيرك كما يكون من غيرك إليك، وهو المقصود بمعنى أن تزول وتمحى الضغائن من الأحق والمحق ومن أعماق الطرفين. أن يظهر الواحد بغير ما هو عليه، لأن يوقع بالآخر واهما أنه على حقيقته وهو على غير ذلك عن تجاهل حتى يعتقد الناس أنه جاهل أو تسامح حتى يعتقد الناس أنه مسامح. أما العفو فهو غير التسامح، فهو الصفح عند المقدرة على العقاب، لأن العفو تفضل، والتفضل لا يكون إلا عند المقدرة والقدرة، وهذا ما ينطبق تماما على سياسة السلم والمصالحة الوطنية، لأن الأمة أو الدولة مدت يدها نظيفة بغرض الصفح عن أبنائها من تفرقت بهم السبل وحادوا عن سواء السبيل القويم بعد أن غرر بهم وتمادوا في إتباع أهل الفتاوى عن جهل، ثم استدركوا واكتشفوا أخطاءهم، فما كان من أمتهم وأولي الأمر منهم سوى الصفح عنهم ومصالحتهم بعد أن تصالحوا مع أنفسهم لأن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له وخير الخطائين التوابون”. الأستاذ الإمام سالت الجابري (مفتي الجلفة) مساهمة الأستاذ الإمام سالت الجابري، مفتي ولاية الجلفة، تمثلت في الثناء على منظمي هذا الملتقى بتأكيده على أن “مكامن سر نجاح هذا الملتقى هو حسن التوفيق بين فضيلتين، فضيلة المرحوم الشيخ سيدي عامر محفوظي، وفضيلة التسامح، وهذا التعانق بين الفضيلتين، تشهد له أحداث الأزمة التي حلت بوطننا وألمت بشعبنا، فكنا لا نجد الشيخ إلا وهو مهموم بوضع أمته المزري، وما ادخر جهدا وسعى في السعي وراء الصلح والمصالحة على المستوى المذهبي أو الإجتماعي الأسري حتى غدا حضوره حلا لجميع الخلافات والمشاكل التي تغذيها النعرات والنزاعات، فكان وجوده منحة من الله في عز المحن، فكان منهجا نستلهم منه البلسم لمعالجة مختلف القضايا المعاصرة استرشادا بالمشكاة المقدسة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم “أمرني ربي أن أعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني وأصل من قاطعني”. الشيخ سيدي المأمون القاسمي الحسني (شيخ الزاوية “الرحمانية” الهامل ببوسعادة) شعاع من شعب رسالة الزوايا في نشر قيم التسامح وإشاعة السلام، كانت محور المساهمة التي تفضل بها شيخ زاوية الهامل حول الدور الريادي الذي قامت به الزوايا في نشر خلق التسامح وإشاعة السلام بين الأفراد والمجتمعات، مؤكدا في مداخلته القيمة نهج الوسطية الذي تبنته الزوايا في مواجهة جميع التحديات والنزاعات الفكرية المذهبية وبالخصوص ما حدث بين الإباظية والمالكية والدور الفعال الذي قامت به الزوايا في توحيد الرؤى ودرء الخلافات المذهبية إعتمادا على نهج الإعتدال والوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، فالتسامح وتقبل الآخر هو في حد ذاته ثمرة للثقافة الإنسانية العالمية نحو مجتمعات يكون أساسها التسامح لما لهذا الخلق من أثر في حياة الأمم واستقرارها، فالزوايا كانت دوما حاضرة، ودورها لايخفى على أحد سيما أثناء الفترة العصيبة التي مرت بها الجزائر والإنتشار الخطير للفتاوى المضللة”. الأستاذة حياة كتاب (جامعة المسيلة) في ردها عن سؤال حول فقه التسامح كمنهج تطبيقي لتحقيق المصالحة تطرقت الأستاذة كتاب إلى صلب الإشكالية، حيث رأت أن “التسامح هو كلمة تستخدم للإشارة إلى الممارسات الجماعية والفردية وتقضي بنبذ التطرف أو ملاحقة كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة بمعنى الدعوة لقبول إختلاف الآخرين، فالتسامح لابد أن يكون خلقا إجتماعيا وسبيلا لضبط الإختلافات وإدارتها، وبالتالي فإن خلق التسامح يعد المنهج التطبيقي الأمثل لتحقيق المصالحة في المجتمع من خلال الإعتراف بالحقوق الشخصية لكل فرد والرفق والعفو والألفة، كلها قيم يجب الإلتزام بها لتحقيق الأحسن للأمة التي ستعيش بدون شك في كنف الإستقرار والأمن”. الأستاذ الدكتور عبد القادر بن حرزالله (جامعة باتنة) بخصوص العلاقة بين السلم والتسامح كقيم أخلاقية رفيعة أبرز الدكتور في مساهمته معنا هذه العلاقة السببية، منوها بالجمع بين حدثين فضليين في هذه المناسبة ويرى “أن فضيلة التسامح هي صفة تدل على الأصالة وهي قيمة إسلامية بالأصالة، ومن بين أهم ضوابطها أنها ليست مجرد ثقافة عارضة أو خيار وقتي، بل هي منهج حياة للمواطن المسلم انطلاقا من قوله تعالى “خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين”، كما تبث أن التسامح مقصد شرعي متبث في فروع أحكام الشريعة، وفي العبادات كرفع الحرج واليسر في المعاملات، وعليه فإن حقوق الآخر نظر إليها الفقهاء كما هي في المذهب المالكي الذي تؤكد كل مشاربه المختلفة على خلق التسامح واحترام الآخر مهما كانت النظرة ولو حتى خاطئة”.