المتابع للمشهد المسرحي العربي عامة والجزائري بشكل خاص، يلاحظ أن الحديث قد كثر حول التأسيس لنقد عربي ينأى بالممارسين عن النظريات الغربية التي لا تتماشى مع المواضيع المتناولة للواقع الاجتماعي الخاص به، حيث يتجاهل المتداولون لهذه الملاحظات والانتقادات أزمة العرب الحقيقية في إثبات المسرح العربي لذاته، إلى جانب النقائص والعقبات التي تعترض مسيرة الفن الرابع في بلادنا، والمسببات الواقفة وراء وصولنا إلى الواقع الذي يتخبط فيه اليوم... ولوضع بعض النقاط على مجموعة من الحروف المبهمة في هذا السياق، ارتأت “السلام” إيراد أراء الروائي الكبير واسيني الأعرج، الذي لم يبخل ببعضها علينا في هذا الحديث. يدفعنا تركيز بعض الفاعلين في الحقل المسرحي على ضرورة التأسيس لنقد عربي، إلى التساؤل عن وجود المسرح العربي أولا ومن ثمة الخوض في غمار النقد، وحول هذه النقطة يشير الروائي واسيني الأعرج، إلى الجهود المسرحية على مستوى الوطن العربي وقد وصفها بقوله: “تعتبر معقولة رغم تراجع المستوى مقارنة بسنوات السبعينيات، والثمانينيات حيث كان مهرجان المسرح السوري، والأردني، والكويتي.. وتواجدت ديناميكية مسرحية كبيرة خلقت أيقونات كأسماء ممثلين وممثلات ومخرجين” وحول المشهد الوطني قال: “المسرح الجزائري كان في نفس سياق الديناميكية العربية أين تواجد علولة في مدينتي وهرانوبجاية.. ما خلق ممثلين وتقنيين وعمال مسرح”، وأضاف واسيني: “المشكل الحقيقي طرح في وقت لاحق، بدء من نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، المرحلة التي وقعت خلالها تغيرات كثيرة على غرار السوسيولوجية، اورثت المجتمع العربي تراجعا كبيرا في العلاقة مع الفن، بسبب المشاكل الاقتصادية والسياسية والثقافية.. وصلت إلى أن الدولة التي كانت تمول المسارح التابعة لها بدأت تتراجع بحكم المشاكل الاقتصادية التي عانت منها، لنجد في المحصلة النهائية أن المسرح تقلص كوجود وكدور وبدأ يعاني لدرجة مرت فيها على عمال المسرح بوهران والعاصمة مثلا، أشهرا عديدة دون أن يستلموا رواتبهم، وهنا لاح التفكير في حل أزمة المسارح واعتمدت آنذاك سياسة وضع اسم كبير على رأس كل مسرح، حيث أدار عبد القادر علولة مسرح العاصمة، وكاتب ياسين مسرح مدينة سيدي بلعباس، ووضعت فوزية آيت الحاج على رأس مسرح بجاية.. ونحن لا نعيب على الأمر، فالخيار طيب لأن الناس المسرحيين هم من يديرون المسرح، لكنهم في ذات الوقت واجهوا مشاكل أخرى حيث غرقوا في المشاكل الإدارية أين صار المدير هو المسير للمسرح وليس من يقترح الجانب الفني والتوجه المسرحي.. على عكس ما يحدث في البلدان الأخرى وبالتالي فقدنا المسرح ومن ينتجه ما يجعلنا نتساءل أين مسرح الحلقة لعلولة وأين جهود بوقرموح.. وكأننا عدنا للبداية المنطلقة من الصفر”. واصل المتحدث: “لتأتي العشرية السوداء وتدمر إلى جانب المجتمع كل البنية الثقافية وتجعلنا نشك حتى في أنفسنا ونبحث في مسألة من نحن؟ وما هو الفن؟ وهل له دور فعلا في الحياة ؟وهل كان من الضروريات أم بالإمكان الاستغناء عنه.؟؟ وبعدها في سنة الألفين بدأنا في محاولة ترميم ما دمر وهذا يأخذ وقتا كبيرا ويتطلب منا أن نكون في المستوى ونعطي للزمن وقته لأن الترميم لن يشمل البنايات التي يسهل إرجاعها من جديد بل المشكل يكمن في ترميم العلاقة التي فقدت بين الجمهور والمسرح وحتى نتمكن من ترميمها وجب تقديم جهد سنوات طويلة عريضة لها”. أوضح الأعرج الطريقة التي سيتم بها الترميم حيث قال: “أولا نعيد بناء العلاقة من جديد، وبالنسبة لي نبنيها من منطلق المدرسة، مثل ما كان سابقا حيث كبرت في مدرسة تبرمج لي مرة في الأسبوع زيارة إلى متحف السينما، وأخرى للمسرح كل شهر، وفي مدن صغيرة كتلمسان، فالمدرسة هي من تربي هذا الحس المسرحي الفني حتى وإن اضطرت لتقديم عروض خاصة بتلاميذ الثانويات وتحضر من يشاهدها وخاصة ما يحمل الطابع الكلاسيكي منها، على أن تكون متبوعة بجلسة نقاش ليستفيد الطالب مما شاهده، وتخلق لديه نوعا من الفضول المسرحي الذي يبني من خلاله شخصية لا تتحصل عليها خلال سنة أو اثنتين بل على مدى فترة طويلة من الزمن” . ولدى ربطه للموضوع بالنقد ذكر أن: “النقد يأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار ويخلق التوجه الحقيقي نحو المسرح، ويدلنا على التوجهات الممكنة حتى نخرج من دائرة الضيق، لكنه يعاني مشكلة خاصة تتمثل في أن أغلبه في معظم بلدان الوطن العربي أكاديمي لا ينشأ ضمن مناخ مسرحي بل في محيط جامعي، لأن كل اشتغاله يتم هناك، فيبقى نظريا يعطينا مجرد تصورات ونظريات وكتب، بينما يبقى الواقع المسرحي شيئا آخر، والحكمة تكمن في كيفية قيامنا بعملية تجسير تكامل بين المسرح كمسرح وبين الجامعات ونقدها، حتى يستفيد النقد من الجهد الأكاديمي، ويتمكن هذا الجهد في الوقت نفسه من الاستفادة من الحياة المسرحية الحقيقية”. قال مبدع “أصابع لوليتا” حول الركائز النقدية الغربية التي يتكئ عليها الدارس للمسرحيات العربية المقتبسة في معظم حالاتها من نصوص أجنبية: “المسرح العربي من حيث الموضوعات موجود لأنه يتعرض لمشكلات مجتمعية عربية، لكن الثقافة الحديثة المعاصرة سواء، مسرحية، سينمائية، روائية، أدبية.. كلها تمر عبر القناة الأجنبية، والمشكل لا يكمن في تلك القناة لأن المسرح يملك سياقا عالميا تشترك فيه كل النصوص كبنية، ودوري يكمن في كيفية جعل هذا المسرح العالمي مسرحا متجاوبا مع المعطيات المحلية، وهذا ممكن ومرتبط بعبقرية المخرج فمثلا لما اذهب إلى طوكيو، أو إحدى المدن الأمريكية، لمشاهدة مسرحية ما، وأشعر بأنها تهمني وكأنها تتحدث عني فذلك نابع من اشتغال المخرج على العنصر الإنساني الذي أعطى القوة الفاعلة للمسرحية وبعدها الإنساني الشامل والواسع، لكن إذا بقينا في الدائرة الضيقة مثل التي أرادها من لجأوا لتعريب المسرح، وحتى يربطوه بقليل من المحلية ظهرت أمامهم وسائط، فرجعوا إلى المسرح التراثي بحجة استغلاله ليصبح الفضاء معبرا عن انشغالاتنا، لكن التجربة لم تعط شيئا ولم تثمر. والعنصر الثاني قال دعنا نقلد المسرحية القديمة مثل الحلقة والفرجة لعلولة وبرشيد.. لكن الأمر تطلب ركحا للفرجة أين يتحرك الشخص بين الجمهور، وبرز أن كل نظام مسرحنا مبني على النموذج الكلاسيكي الإيطالي فكيف لنا أن نحقق الفرجة في أحضان نمط إيطالي بخشبته، وجمهوره... ولهذا أقول أن التغيرات تحتاج إلى تصور حقيقي وبنية تجعل من المسرح يتجاوب مع ما هو محلي وبدون ذلك لا يمكننا الوصول إلى ما نصبو إليه”.وأكد واسيني أن الأمر يتطلب إعادة هيكلة وبناء وتصور، وأعطى مثالا بالمسارح العالمية التي: “يوجد فيها ما يسمى بالمسارح التجريبية التي تتوفر نماذج منها حتى في القاهرة، وبالتالي أترك المسارح الإيطالية وابني لي مسرحا صغيرا تتوفر فيه هذه النمطية، وليكن تجريبيا فلندخل في التجربة ودعنا نرى ما سينتج عنها فقد تعطي نتيجة مهمة، وربما خلقت علاقة أخرى بين الجمهور والمسرح غير العلاقة الكلاسيكية، ولن يكفينا جلب أناس من الخارج لتكوين المواهب، بل لا بد أن تكون لدينا سياسة ورؤية.. وإلا فحكايا التكوين وما إلى ذلك من دون رؤية ستفرز جيلا نرميه على قارعة الطريق وكأننا لم نفعل شيئا، لكن إذا ما قامت جهات تملك رؤية بتكوينه فسوف تحقنه في النشاط المسرحي مباشرة”. لم يغفل ناسج “طوق الياسمين” ترجمة ما يحمله من أراء حول مستقبل المشهد المسرحي الوطني، حيث أشار إلى أننا ما نزال نتخبط في دائرة من المعاناة الكبيرة -حسب وصفه- كان بعضها موضوعي والبعض الآخر بالإمكان حله: “فأما المعاناة الموضوعية فتحتاج إلى وقت كالنص المسرحي الذي نعاني من مشكل عدم وجوده، لأننا لم نكوّن أناسا في هذا المجال، سواء في جامعاتنا ومؤسساتنا ومعاهدنا المتخصصة.. ولم نستطع في لحظة من اللحظات اكتشاف الشخص الموهوب في الكتابة المسرحية لأنه يتميز عن غيره من الكتاب العاديين، بتجاوزه فعل الكتابة إلى ضرورة إيجاد صدى لما يكتبه للخشبة فإن لم يجد مخرجا يستقبل نصه فلن تكون هناك قيمة لما يكتبه”، وأضاف: “كما أننا نعاني مشاكل مرتبطة بسياسة الدولة التي يجب أن تتغير وتأخذ بعين الاعتبار عملية إدخال المسرح لكل الأماكن كمعطى أساسي، بدء من التلفزيون مرورا بالإذاعة واللذين تخليا عن بثهما للمسرحيات العالمية والمحلية على حد سواء من خلال برنامج “المسرح هذا المساء” وهو العامل الذي حبّبني شخصيا في المسرح، فما الذي ستتكلفه دولة إذا ما برمجت مسرحية من الريبيرتوار العالمي والعربي والجزائري؟ بدل الكلام الفارغ الذي يبث سهرة كل خميس..إذن المشكل مشكل دولة يمكن معالجته بمجرد استصدار قرار بشأنه، وبالنسبة لبناء المسارح فحتى ولو كانت صغيرة في الأحياء الضخمة كباب الزوار، لا بد من وجودها لاكتشاف المواهب حيث سيخجل الناس أول الأمر وبعدها سيأتون للتعرف على الفضاء وبالتكرار يتعودون ويتشجعون لخلق مجموعة من الأوفياء يشكلون فيما بعد المادة الخام للمسارح الكبرى، لان الموهبة هنا ستظهر وتمكننا بالتالي من تكوينها وخلق الفرص لها حيث وجب أن تتوفر لدينا سياسة مسرحية حقيقية وثقافية لتجاوزها.