من مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال أن يحرص المؤمن على حقّ جليسه، وقد روى ابن عبد البرّ رحمه الله في أدب المجالسة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: أعزّ النّاس عليّ جليسي الّذي يتخطّى النّاس إليّ، أما والله إنّ الذّباب يقع عليه فيشقّ ذلك عليّ. وعنه رضي الله عنه أيضا أنّه سئل: من أكرم النّاس عليك؟ قال: جليسي. وأعظم حقوق الجليس عليك: أن تصونه من الوقوع في المنكر من الكلام، وأن تقِيَه من الأحاديث الّذي تحلّ عليه سخط ربّ الأنام. فأكثر ما يُدخِل النّار: اللّسان .. روى الّترمذي وغيره أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَخَذَ بِلِسَانِهِ، وقال - لمعاذ بن جبل: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)! فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ). إنّ كلماتنا محسوبة علينا، يقول سبحانه وتعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، ويقول عزّ وجلّ:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وإنّ الكلمة قد ترفع الإنسان عند الله شأواً عظيما، أو تهوي به في سخط الله مرتعاً وخيما. إنّ الكلمة الطيّبة كالغيث تزيل الهمّ والغمّ وتشرح القلب، والكلمة الخبيثة كالنّار تضرم الكرب وتشعل الحرب . وإذا كانت هناك كلمات تكبّ أصحابّها في قعر جهنّم على مناخرهم، فإنّ هناك كلماتٍ تبتدرها الملائكة أيّهم يكتبُها أوّل، فترفعها إلى الله، إنّها الكلمة الطيّبة والنّصيحة الصّادقة. فإنّ الكلمة الصّادقة تفتح أبوابا من الخير، وتغلِق أبوابا من الشّر، ويوقِظ الله بها عبادا من الغفلة، ويحيِي بها قلوبا ميتة، وقد روى ابن حبّان بسند حسن عن أبي رزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَثَلُ المُؤْمِنِ مَثَلُ النَّحْلَةِ، لاَ تَأْكُلُ إِلاَّ طَيِّباً وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ طَيِّباً). أمّا قلب الأحمق في فمه، كما أنّ فم الحكيم في قلبه، والصّمت في وقته صفة الرّجال، كما أنّ النّطق في حقّ من أعظم الخصال. الكلمة الطيّبة النّافعة من قلب المؤمن، من أعظم وسائل الدّعوة إلى الله، يغيّر الله بها أقواما فيسلك بهم جادّة الحقّ والصّواب، ويفتح لهم بها كلّ باب. الكلمة الطيّبة لا تزال ولن تزال تتردّد في أذن سامعها، فتتلذّذ بها الآذان، وتنشرح لها الصّدور، وتبتهج لها القلوب. لذلك بقيت كلمات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آذان أصحابه رضي الله عنهم جعلوها نبراسا لحياتهم، وشعارا لمواقفهم.