في مشهد لن يختلف عما عايشه الجزائريون على مدار السنوات الماضية، تقود مؤشرات متوافرة رصدتها "السلام" عبر ولايات الوطن، إلى أنّ سوق المواشي سيكون هذا العام مناسبة متجددة للغلاء، وهو احتمال يتزايد مع اقتراب مناسبة عيد الأضحى، ارتفاعا جنونيا في الأسعار في بلد يمتلك 22.5 مليون رأس من الغنم، وبرزت نجومية من نوع خاص أبطالها فصيل من المضاربين بتلاعباتهم اللاهثة وراء تحقيق أرباح طائلة وفي ظرف قياسي. في التحقيق التالي، مندوب "السلام" ومراسلوها تجوّلوا بين مختلف مساحات البيع وكانت له أحاديث مع موّالين وتجار ومستهلكين، فضلا عن مسؤولين ومتابعين. لا حديث في الجزائر هذه الأيام سوى عن الأسعار الخيالية لسوق الأضاحي، هذه الأخيرة بلغت أعلى مستوى لها منذ أربع سنوات، بواقع صار "مستحيلا" معه العثور على مواش تقلّ أثمانها عن الخمس والعشرين ألف دينار، وصار الباحث عن أضحية مقبولة مطالبا بدفع مبالغ تتراوح بين 30 و50 ألف دينار. ويطلق مستهلكون وخبراء النار على المضاربين، كما يعزون خرافية أسعار المواشي إلى تفاقم حدة التهريب وافتقاد الجزائر لاستراتيجية واضحة في تربية المواشي وما يتصل بها من إنتاج اللحوم وتنظيم الأسواق. الجيوب مرشحة للتمزّق أكثر إذا كان اقتناء الجزائريين للأضاحي فيما سبق أمر لا نقاش فيه، حتى لو اضطروا إلى تمزيق جيوبهم، فإنّ الوضع هذا العام بات أسوأ وينذر بعزوف قطاع معتبر من الشارع المحلي عن نحر أضاح أضحت مكلفة للغاية، في بلد تعوّد مواطنوه على نحر ثلاثة ملايين أضحية سنويا. هذا الانطباع تكرّس لدينا ونحن نتنقلّ بين أسواق بجاية وتيزي وزو وبومرداس شرقا، إلى نظيراتها بأولاد فايت، المعالمة، وبوسماعيل غربا، وكذا الحراش وباب الوادي في ضواحي العاصمة، أين كان الركود عنوانا لحركة بيع وشراء المواشي، إذا ما جرى استثناء "أصحاب المال" أو كما يصفهم البعض "الأثرياء الجدد" الذين لا يترددون عن شراء ما يروق لهم من الخرفان السمينة القرناء، مقابل دفع رزما نقدية وصلت قيمتها في بعض الحالات بين 70 و100 ألف دينار وسط دهشة عقدت ألسنة البسطاء. ويعلّق منير، الموظف بمؤسسة خاصة: "هؤلاء يشجعون التجار الذين لا يألون جهدا في الإمعان بالجشع في غياب لأي رقابة رسمية". وبلغة الأرقام، عُرضت خرفان نحيلة لا تغري الناظرين بين 20 و26 ألف دينار، بينما لم تنزل أثمان الكباش المقبولة تحت سقف 30 ألف دينار، لتفوق أسعار الكباش الجيدة التي تفوق أوزانها 18 كيلوغراما، حدود ال35 ألف دينار، وقد تزيد عن ذلك في أحايين كثيرة، وهي ارتفاعات يعزوها الموّالون كالعادة إلى غلاء الأعلاف المستوردة. الكثيرون رموا المنشفة مبكّرا ونظرا لغلاء المعيشة بشكل عام والضعف الذي يطبع رواتب نحو 3.5 ملايين موظف من مستخدمي القطاع العام، فإنّ كثيرا رموا المنشفة وأعلنوا عن الغاء سنة النحر من أجندتهم لهذا العام، خصوصا بعدما امتدت عدوى الغلاء إلى أسواق بعيدة كانت ملاذا للبسطاء على منوال الجلفة، الأغواطوبسكرة. وبلهجة فيها كثير من التبرّم، صبّ حمزة العامل في مصرف عمومي، جامّ غضبه على من سماهم "السماسرة" متسائلا عما إذا كان الأمر عاديا أن يفرض هؤلاء منطقهم تحت أعين الحكومة التي تتحدث كل مرة عن تعزيز الرقابة ومعاقبة المتلاعبين، إلاّ أنّ الوضع يتواصل وبوتيرة أخطر، على حد تعبير حكيم المحاسب بمجموعة خاصة. وتشير نفيسة. ربة بيت وعاملة بفندق، إلى أنّ ما ادخرته لا يكفي لجلب نصف أضحية، بينما ترى لامية الأستاذة بإكمالية، أنّ شراء أضحية بثلاثين الف دينار هو "الجنون بعينه" تماما مثل استنجاد فريق من مواطنيها بالاقتراض، في حين يكشف فريد صاحب محل لبيع العطور، أنّ شراء أضحية صار "عملية تضامنية" يساهم فيها كل أفراد العائلة لافتكاك الكبش الميمون!َ وعلى منوال مناسبات سابقة، حرص مسؤولو وزارة الفلاحة والتنمية الريفية، على إبراز الاكتفاء الذاتي من رؤوس الماشية، بهذا الصدد، كشف رشيد بن عيسى المسؤول الأول للقطاع، عن توفر 26 مليون رأس ماشية في الجزائر، وخلافا لما يجري في الميدان فإنّ بن عيسى يكذّب رأسا سيطرة المضاربين على مقاليد السوق، حيث يشدّد على أنّ هؤلاء جرى تحييدهم بنسبة 80 بالمائة. وفي مقاربته لما يجري، ينتقد الطاهر بولنوار، المتحدث باسم اتحاد التجار، استمرار تغييب الأسواق الرسمية والتي كان يمكنها أن تقطع الطريق على كل ألوان التحايل، ويرى بولنوار أنّ الأسواق الفوضوية المنتشرة هنا وهناك، هي من تؤطّر ممارسات غير أخلاقية تقفز بأسعار المواشي إلى أكثر من أربع مرات سعرها الحقيقي، وسط غياب أي استثمار لثروة الماشية رغم الامكانات الهائلة. كما يقحم بولنوار عاملا إضافيا يتمثل في موجة التهريب التي تطال قرابة ربع مليون رأس ماشية كل عام، تقوم مجموعات محترفة بتحويلها إلى دول الجوار، وهي ظاهرة أعيت السلطات ولم تتمكن من تحجيمها تماما مثل عجزها عن النيل من راكبي قطار المضاربة. وتبقي فئة البسطاء بصيصا من الأمل على الساعات الأخيرة التي ستستبق العيد للظفر بأضاح، أين يضطر الموّالون عادة إلى "التخلص" من الرؤوس الكاسدة بأثمان منخفضة، بيد أنّ هذا السيناريو غير أكيد ويخفي وراءه تبعات غير مأمونة. تكاثر نقاط البيع العشوائية رغم الموانع تتكاثر نقاط البيع العشوائية رغم الموانع، بيد أنّ القائمين على هذه النقاط يرفضون اتهامهم بالوقوف وراء المغالاة، بهذا الشأن يحمّل الموّال احميدة، الذي التقيناه بنقطة بيع "عشوائية" بحي بوسماحة ضواحي العاصمة يحمّل مسؤولية الارتفاعات الحاصلة إلى فئة "الوسطاء"، ويجزم أنّ هؤلاء يتلاعبون بالأسعار مثلما يحلو لهم في غياب أي حسيب أو رقيب على حد تعبيره، يرمي التاجر حسان، بالكرة في مرمى الموّالين، إذ يشدد على أنّهم اقترحوا مواشيهم بأسعار عالية رغم توفر الأعلاف والظروف المناخية الجيدة في مناطق بسكرة، حاسي بحبح، عين وسارة، الجلفة وقصر البخاري التي تتميزّ بماشيتها الجيدة والمتاحة هناك بأسعار منخفضة إلى قرابة نصف ما هو مقترح في المدن الكبرى. ويقرّ فوزي الذي حجز لنفسه أحد المستودعات بإحدى أزقة باب الوادي، بالتهاب الأسعار ما يجعلها في متناول الكثيرين من المواطنين البسطاء، بيد أنّ فوزي شأنه في ذلك شأن سليم، عبد الحق ورضوان وهم من محترفي تجارة المواشي – مناسباتيا – يرفضون تحميل المسؤولية للباعة، ويدرجون عاملا إضافيا تسبّب في الغلاء، ويرتبط رأسا باضطرار عديد التجار إلى استئجار مستودعات بأثمان مرتفعة، تراوحت قيمة ايجارها بين 40 و70 ألف دينار، وذلك بحسب المنطقة ومدى استراتيجية موقعها ولفترة لا تتجاوز الأسبوعين، وهو معطى أجبر الباعة على رفع سعر المواشي لتعويض ما خسروه جرّاء الإيجار. ويقف أرباب الأسر – لا سيما من ذوي الرواتب الزهيدة – في حيرة كبيرة إزاء وضع كهذا، حيث يتساءل الجيلالي العامل في شركة مملوكة للحكومة: "كيف لنا أن ننسجم مع هذه الأسعار"، وتشاطره الأرملة زهرة. التي تعول أسرة من ستة أفراد: "قيمة الكباش مبالغ فيها كثيرا، الناس هنا صاروا يتحينون الفرص لاستنزاف الكادحين"، وتضيف بعد تنهيدة طويلة: "أين هي الحكومة وفرق الرقابة التي يتحدثون عنها؟". ويستغرب زهير وهو صاحب متجر للعطور، كيف لأسعار الماشية أن تلتهب كل هذا الحدّ في بلد يتوافر على ثروة هائلة من المواشي تفوق حاجات مواطنيه من الأضاحي، وعلى المنوال ذاته يتساءل توفيق، صاحب محل للمجوهرات: "لست أفهم كيف يتحكم مجموعة من المضاربين الانتهازيين في عملية كهذه، ما محلّ السلطات واتحاد التجار من الإعراب؟"، في وقت يقول العمّ نقازي الذي يتقاضى أجرا شهريا لا يتجاوز ال16 ألف دينار، بلهجة أسى، أنّه بات عاجزا تماما عن اقتناء أضحية، ويمنّي نفسه بهبوط الأسعار في الساعات الأخيرة قبيل يوم النحر، ليبهج أولاده بكبش صار بعيد المنال، مثلما قال. من جانبه، يشير كل من عبد القادر (مستخدم في شركة لسكك الحديد)، إسماعيل (موظف في بنك خاص)، وعمار (أستاذ في الإعدادي) أنّهم اشتروا كباشا تراوحت أثمانها بين 25 و29 ألف دينار، وأنفقوا مالا إضافيا لجلب العلف الذي صار ثمنه باهظا هو الآخر، لا لشيء سوى لرسم البسمات على شفاه أطفالهم، حتى وإن كان ذلك يقتضي حرقا لجيوبهم واستنزافا لميزانياتهم المُنهكة. ولا يتحرج فريد المتزوج حديثا، وسليمان الموظف في وحدة للتعليب، فضلا عن صديقهما عاشور الذي يشتغل إسكافيا، أنهم اضطروا للاقتراض من أجل جمع قيمة أضاحيهم التي اشتروها من مركز جواري اقترح كباشا ب24 ألف دينار، وهو ما عُدّ فرصة أغرت الكثيرين، رغم أنّ السعر المذكور لا يقلّ ارتفاعا عن نظرائه. المثير في الأمر، أنّ ما تشهده سوق الأضاحي يتم وسط (استقالة) حكومية غير معلنة، فالسلطات لم تكلّف نفسها عناء التدخل، بل أنّ صالح صويلح، الأمين العام لاتحاد التجار، ورغم إقراره بوجود مضاربات إلاّ أنّه أكّد للإذاعة الحكومية، أنّ التجار أحرار في وضع الأسعار التي تناسبهم، طالما أنّ السوق حرّة، فيما اكتفى كريم بوغانم، المسؤول المركزي على مستوى وزارة الفلاحة والتنمية الريفية، بتأكيد توافر بلاده على 22.5 مليون رأس من الأغنام في صحة جيدة يتم نحر خمسة ملايين منها كل عام. وإلى حد كتابة هذه السطور، لم تنجح الدعاية المضادة في إسقاط أسهم الكباش غداة ما أثير بشأن معاناة بعض المواشي من داء "الحمى القلاعية" وتعرّض أخرى للتسمين بواسطة الهرمونات، وكذا ما راج عن تداول مشبوه لأوراق مالية مزيّفة جرى استخدامها مجددا في شراء أغنام، حيث لم يسهم ذلك في حمل بورصة الأضاحي على تسجيل تراجعات.