الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد: فقد تقدَّم الكلام -فيما مضى- عن حقوق الزوج على زوجته، وعن حقوق الزوجة على زوجها، ونتعرَّض -في هذه الكلمة- إلى الحقوق المشتركة بينهما، والتي رتَّبها الشارع على صحَّة عقد الزواج، وهذه الحقوق معدودةٌ من آثار ذلك العقد، وتتمثَّل في: حِلِّ الاستمتاع، وثبوت النسب، وحرمة المصاهرة، وحُسن المعاشرة بالمعروف، وثبوت التوارث. وقد رأيتُ من المفيد أن أُفْرِدَ حقوقَ المعاشرة بالمعروف بين الزوجين في فرعٍ مستقلٍّ بالنظر إلى أنَّ المعاشرة بالمعروف -وإن اقتضت المماثلةَ- إلاَّ أنَّ الزوجين قد يختلفان في مفرداتِ هذا الحقِّ -كما سيأتي-، ثمَّ أُعقبه بالحقوق المشتركة الأخرى -ماليةً كانت أو غيرها ممَّا توجبه الرابطةُ الزوجية- في فرعٍ آخر تالٍ له. الفرع الأوَّل: المماثلة في الحقوق بين الزوجين: الأصل في الحقوق المشتركة بين الزوجين هو ما قرَّره الشرع لهما وعليهما، وما يمليه عرفُ الناس وعاداتُهم في الأحوال والأمكنة ممَّا يُقِرُّه الشرع ولا ينكره، إذ ما يجري عليه عرفُ الناس هو تابعٌ لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم، وقد جاء في التنزيل قولُه تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]، فالآية أوجبت المماثلةَ في تأدية كلِّ واحدٍ من الزوجين ما عليه من الحقِّ لصاحبه بالمعروف، فكانت المماثلة بالمعروف هي ميزانَ المعاملة بينهما في جميع الشؤون والأحوال، فإذا همَّ الزوج بمطالبتها بأمرٍ من الأمور فيما يدخل في وُسْعِها وطاقتها تذكَّر أنَّ عليه واجبًا مثله بإزائه، فكان ميزان المماثلة في الحقوق يتبلور في أنه ما مِن حقٍّ للمرأة على الرجل إلاَّ وللرجل في مقابله حقٌّ على المرأة على وجهٍ يليق بكلِّ واحدٍ منهما ويناسبه. غير أنَّ المماثلة في الحقوق المشتركة بين الزوجين قد تثبت على أساس التقابل المتبادل بينهما في الحقوق على أنهما أكْفَاءٌ من غير شرط المطابقة بين أعيان تلك الحقوق، إذ لا يخفى أنَّ الزوج لا يجب عليه مثلاً إذا ما غسلت له ثيابَه أو خبزت له أن يفعل نحوها مثل ذلك، وإنما المقصود بالمماثلة مقابلةُ واجبٍ لآخر، فما من عملٍ تعمله المرأة لزوجها إلاَّ وللرجل عملٌ يقابله لها، إن لم يكن مثلَه في شخصه وعينه فهو مثلُه في جنسه، فإن تعذَّر في جنس الفعل أو العين فيقابله بحسبه بما يليق بالرجال مِن زيادة التوسعة والإنفاق أو في حُسن العشرة والصحبة لقوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]، أي: زيادةٌ في الحقِّ والفضيلة والإنفاق والقيام بالمصالح(1)، وفي معنى الآية قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَهُنَّ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ»(2). وقد تثبت المماثلة في الحقوق بين الزوجين في أعيانِ أو أفرادِ نوعٍ من الحقوق على وجه المقابلة وبشكلٍ متطابقٍ مع أعيانها أو أفرادها مثل: الآداب العامَّة مِن رفقٍ في المعاملة والمعاشرة بالمعروف، فكلُّ واحدٍ من الزوجين يقابل حقَّ صاحبه بتأديةِ ما عليه تجاهه على وجهِ مماثلةٍ متطابقةٍ على بعض أفراد تلك الآداب العامَّة وأعيان المعاشرة بالمعروف مِن كرم القول وطيِّبه، وطلاقة الوجه وبشاشته، والتقدير والاحترام، والصفح عن الهفوة والتغاضي عن التقصير، ونحو ذلك ممَّا تقدَّم في حقِّ الزوجة على زوجها، ومِن ذلك العناية بالمظهر وحُسن الهيئة، فقد روي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَزَّيَّنَ لِي؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228]»(3)، وعدم إفشاء السرِّ بينهما أو ذكرِ قرينه بعيبٍ أو سوءٍ بين الناس كما تقدَّم في الحديث: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»(4)، ونحو ذلك من جزئيات الآداب العامَّة وأعيان المعاشرة بالمعروف. وانطلاقًا من مفردات المماثلة في الحقوق التي ينبغي على كلٍّ من الزوجين أن ينهض بها ويسعى إلى تحقيقها وتأديتها حقَّ الأداء نتناول جملةً منها على وجه التوضيح والتقريب في العناصر التالية: أوَّلاً: التواصي بالحقِّ والتعاون على طاعة الله والتذكير بتقوى الله: فالواجب على الزوجين أن يوصيَ بعضُهما بعضًا بالحقِّ الذي يحقُّ القيامُ به مِن قضايا الإيمان بالله ومسائل التوحيد، ويتعاونا على طاعة الله بما شرعه واجتناب ما نهى عنه، ويذكِّر بعضُهما بعضًا بتقوى الله والصبر على القيام به عملاً بقوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]، وقد جاء ثناء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وترحُّمه على زوجين يعين كلٌّ منهما الآخرَ على طاعة الله وعبادته فقال: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»(5). ومِن ذلك ما يَعِظُ به الرجلُ زوجتَه عند خوفه نشوزَها فينصحها ويأمرها بتقوى الله، ويذكِّرها بما أوجب الله عليها من جميل العشرة وحُسن الصحبة والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ونحو ذلك من النصائح الوعظية التي تؤثِّر في قلب المرأة لقوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾[النساء: 34]، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «فمتى ظهرت منها أمارات النشوز، مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلاَّ بتكرُّهٍ ودمدمةٍ؛ فإنه يَعِظُها فيخوِّفها الله سبحانه، ويذكر ما أوجب اللهُ له عليها من الحقِّ والطاعة، وما يلحقها مِن الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقط بذلك من حقوقها مِن النفقة والكسوة، وما يباح له مِن ضربها وهجرها»(6). والمرأة -في مقابل ذلك- تذكِّره بتقوى الله والرجوع عمَّا هو عليه من انحرافٍ عن الحقِّ أو ميلٍ إلى الباطل وتحيُّدٍ عن سواء السبيل، وتحذِّره من سوء العاقبة، فقد كانت الزوجة الصالحة مِن السلف تقول لبعلها إذا خرج إلى عمله: «اتَّقِ اللهَ فينا ولا تأتِنا برزقٍ من حرامٍ؛ فإنَّا نصبر على الجوع في الدنيا ولا نصبر على نار جهنَّم يوم القيامة»(7). ثانيًا: تجسيد المودَّة والرحمة في الحياة الزوجية: فيجب على كلٍّ مِن الزوجين أن يحمل أكبر قدرٍ من المحبَّة الخالصة التي تدفع كلَّ واحدٍ منهما ليكون عونًا لصاحبه في تفقُّد أحواله وقضاء حاجته وإعطائه مِن لسانه ما يحبُّ أن يسمعه منه ونحو ذلك. كما يحمل كلٌّ منهما لصاحبه قدرًا من الرحمة يبذلها تجاه الآخر طيلة حياتهما الزوجية، فيوصي بها ويدعو إليها مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ [البلد: 17-18]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»(8)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»(9). ومن آثار المودَّة الخالصة والرأفة الشاملة المبذولتين بين الزوجين: أن يعفوَ كلُّ واحدٍ منهما عن أخطاء الآخر وزلاَّته، ويتغاضى عن هفواته وسقطاته، ويواسيَه عند الحزن والهمِّ، ويشدَّ أَزْرَه ويقوِّيَ عَضُدَه عند الشدائد والمحن، ويداويَه عند المرض والعجز، ولا يكلِّفه ما يشقُّ عليه ويعسر، ولا يحمِّله ما لا يرتاح معه، ونحو ذلك من المعاملة الحسنة المكسوَّة بالمحبَّة والرحمة التي يتوخَّى فيها جَبْرَ الخواطر والوقايةَ من النفور والكراهة، والتماسَ الألفة، والتعاونَ على جلب السعادة والسرور، ودفعِ الحزن والشرور قَدْرَ الإمكان، طلبًا لاستمرار الحياة الزوجية. وتأكيدًا لهذا المعنى جاء في حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ، جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بِيَدِ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: وَاللهِ لاَ أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى»(10)، وفي حديث أنسٍ رضي الله عنه: «كُلُّ وَلُودٍ وَدُودٍ إِذَا غَضِبَتْ أَوْ أُسِيءَ إِلَيْهَا أَوْ غَضِبَ -أَيْ: زَوْجُهَا- قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ، لاَ أَكْتَحِلُ بِغُمْضٍ(11)حَتَّى تَرْضَى»(12)، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه يومًا لزوجته: «إِذَا رَأَيْتِنِي غَضِبْتُ فَرَضِّينِي، وَإِذَا رَأَيْتُكِ غَضْبَى رَضَّيْتُكِ .. وَإِلاَّ لَمْ نَصْطَحِبْ»(13). كلُّ ذلك مصحوبٌ بطهارة نفسٍ وطيب روحٍ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «مِن تمام رحمته ببني آدم أنْ جعل أزواجَهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهنَّ مودَّةً وهي المحبَّة، ورحمةً وهي الرأفة، فإنَّ الرجل يمسك المرأة إمَّا لمحبَّته لها أو لرحمةٍ بها بأن يكون لها منه ولدٌ، أو محتاجةً إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك»(14). هذا والمودَّة والرحمة أمران ضروريَّان لحُسن العشرة بين الزوجين، فلا بدَّ من تحقيقهما ولو اقتضى الأمرُ استعمالَ المعاريض والكنايات والتورية في حديثِ كلِّ واحدٍ منهما مع الآخر استجلابًا للمودَّة والألفة. وفي سياق هذا المعنى قال ابن حزمٍ -رحمه الله-: «ولا بأس بكذب أحد الزوجين للآخر فيما يستجلب به المودَّة، كما روينا -بسنده إلى أمِّ كلثومٍ بنتِ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ- أنها سمعت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول:«لاَ أَعُدُّهُ كَذِبًا: الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ يَقُولُ القَوْلَ يُرِيدُ الصَّلاَحَ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ القَوْلَ فِي الحَرْبِ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ، وَالمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا»(15)»(16). فالإسلام حريصٌ على دوام العشرة بين الزوجين وإبقاءِ رابطة الزوجين متماسكةً ملؤها المودَّة والرحمة، وإزالةِ كلِّ عائقٍ يكدِّر صفوَها أو يعيق سيرَها، لذلك شرع نظامَ الحكمين في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35]. ثالثًا: بذل الثقة وإحسان الظنِّ: فيجب على كلٍّ من الزوجين أن تَصْدُر أقوالُه وتصرُّفاتُه بعيدةً عن الحَيْف والتشكيك أو التكذيب أو إساءة الظنِّ بصاحبه لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ فَلاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلاً»(17)، قال ابن حزمٍ -رحمه الله-: «والإحسان إلى النساء فرضٌ ولا يحِلُّ تتبُّعُ عثراتهنَّ، ومن قَدِمَ مِن سفره ليلاً فلا يدخل بيتَه إلا نهارًا .. إلاَّ أن يمنعه مانعُ عذرٍ»(18). بل ينبغي أن يكون كلٌّ منهما واثقًا مِن صدق أقوال صاحبه وإخلاص نصيحته له، لذلك وجب أن يكون كلُّ واحدٍ صادقًا مع صاحبه مخلصًا له أمينًا تجاهه، فإذا حدَّث فلا يحدِّث إلاَّ بما هو صادقٌ فيه، وإذا أخبر فلا يخبر إلاَّ بما هو واقعٌ في نفس الأمر، وإذا وعد صدق في وعده وأنجزه، كما يجب أن يتَّصف كلُّ واحدٍ منهما بالأمانة تجاه صاحبه فلا يخونه ولا يغشُّه في قليلٍ ولا كثيرٍ، ولا يزوِّر عليه الحقيقةَ أو يَغُرُّ به بحالٍ من الأحوال، ولا يُظهر له خلافَ ما يضمره، ولا يزيِّن له القبيحَ والشرَّ ليقع فيه، ولا يعاهده على كتمان سرٍّ أو حفظ نفسٍ أو عِرْضٍ أو مالٍ ثمَّ يخونه ويغدر به، والمسلم لا يتَّصف بالخيانة والغشِّ والغدر ولا يتخلَّق بها تجاه الناس بله زوجته، لأنها صفاتُ أذًى ومكرٍ مذمومةٌ شرعًا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾[فاطر: 43]، بل إنَّ عدم الصدق والإخلالَ بالأمانة من النفاق وخصاله وآياته، وقد بيَّن ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»(19)، وفي حديثٍ آخر: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»(20). رابعًا: التحلِّي بخُلُق الصبر واحتمال الأذى: فقد أوجب الإسلام على الزوجين احتمالَ كلِّ واحدٍ منهما أذى الآخَر والصبرَ على ما لا يعجبه منه من أقواله وتصرُّفاته وسيرته، إذ الواجب أن يستحضر كلٌّ منهما معانيَ العفو والتسامح والرأفة والصفح الجميل إلى جانب العتاب والقسوة والشدَّة، والاعتراف بالحسنات والمزايا إلى جوار التقصير والمآخذ والعيوب، فإن وُجدت الكراهية من أحد الزوجين للآخَر أو النفرةُ منه والرغبةُ عنه من غير فاحشةٍ أو نشوزٍ فعلى الطرف الآخر أن يتحلَّى بخُلُق الصبر تجاهه ويحتمل الأذى وقلَّةَ الإنصاف منه، فإنَّ في الصبر مجلبةً للخير وتفاديًا من انهيار سقف الحياة الزوجية بينهما، وفي سياق هذا المعنى قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصِّلت: 34-35]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»(21)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(22). خامسًا: المسؤولية المشتركة في بناء أسرةٍ متكاملةٍ: يوجب الإسلام على الزوجين القيامَ ببناء أسرةٍ متكاملةٍ من جميع الوجوه، والقيامَ على تربية الأولاد ورعايتهم من الناحية الصحِّية والدينية والخُلُقية والسلوكية، ويحمِّلهما الإسلام مسؤوليةَ تضييع الأسرة والتقصيرِ في الرعاية والتوجيه، وقد روى ابن حبَّان وغيرُه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ»(23)، فالزوج راعٍ في بيته ومؤتمنٌ على من تحت ولايته من زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ وأخواتٍ، وتقع على عاتقه مسؤوليةُ الإنفاق وحُسنِ العشرة وتعليمِ الأولاد وتربيتهم بنفسه أو بواسطة ماله، ويأتي في طليعة التهذيب: تعليمُهم فرائضَ الدين وتأديبُهم بالخُلُق السامي والأدب النبويِّ. والمرأة -من جهتها- مؤتمَنةٌ على بيت زوجها وحافظةٌ لماله، وموكَّلةٌ بحسن تدبير بيتها وطاعةِ زوجها وخدمته وتربية أولادها، فهي لهم قدوةٌ صالحةٌ تراقب سيرتَهم وترعى نفوسَهم وترشدهم إلى ما يقيم دينَهم ويهذِّب أخلاقَهم، وغيرها من الوظائف والأعمال التي تتكامل بها مع مسؤولية الزوج، وقد جاء في الحديث ما يقرِّر مسؤوليةَ كلِّ فردٍ فيما وُكِلَ إليه من حفظ النفوس والأموال ورعاية مصالح البيت في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم:«وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ»(24)، قال البغوي -رحمه الله-: «ورعاية الرجل أهلَه بالقيام عليهم بالحقِّ في النفقة وحُسنِ العشرة، ورعايةُ المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهُّدِ لخَدَمِه وأضيافه»(25). ولا يخفى أنَّ الحديث ركيزةٌ أساسيةٌ في القيام بالحقوق والواجبات ضمن مسؤولية بناء الأسرة، والتكامل في الوظائف والأعمال، والرعاية لِما تحت اليد، ووجوب القيام بها على أكمل وجهٍ وأحسن أداءٍ. الفرع الثاني: الحقوق المترتِّبة على الرابطة الزوجية: يرتِّب الإسلام -بمقتضى عقد الزواج- حقوقًا ماليةً وغير ماليةٍ للزوجين تنشئها الرابطة الزوجية، وقد سبق -في الفرع الأوَّل- ذكرُ حقوق حُسن المعاشرة التي توجِب المماثلةَ بحسب الاختلاف في مفردات هذا الحقِّ، ونتناول -في هذا الفرع- بقيَّةَ الحقوق المترتِّبة على الرابطة الزوجية فيما يلي: أوَّلاً: حِلُّ الاستمتاع: فإذا تمَّ العقد صحيحًا بتوفُّر أركانه وشروط انعقاده وانتفت عنه الموانعُ كالإحرام مثلاً حَلَّ لكلٍّ منهما الاستمتاع بالآخر بجميع أنواع الاستمتاع التي أباحتها الشريعةُ، فهو حِلُّ ما يقتضيه الطبعُ الإنساني ممَّا هو محرَّمٌ إلاَّ بالزواج أو مِلك اليمين لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: 5-6]، فالآية دلَّت على أنَّ الزوجة تحِلُّ لزوجها كما يحِلُّ هو لها، ومن ثَمَّ كان حِلُّ الاستمتاع حقًّا مشتركًا بين الزوجين لا يحصل إلاَّ بمشاركتهما معًا، إذ لا يمكن أن ينفرد به أحدهما، علمًا أنَّ الجماع واجبٌ على الزوج إذا لم يكن له عذرٌ على الأرجح(26)، وهو حقٌّ ثابتٌ للمرأة لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»(27). ولا يخفى أنَّ حِلَّ استمتاع الزوج بخصوص زوجته هو حقٌّ خالصٌ له يختصُّ به دون غيره، أي: لا يشاركه أحدٌ غيرُه في هذا الحقِّ ما دامت الرابطة الزوجية قائمةً بينهما، وتتبلور دلالةُ هذا المعنى مِن جهة زوجته -أيضًا-، إذ لا يحِلُّ لها الاستمتاعُ إلاَّ بزوجها، فطريق استمتاعها وحيدٌ لا يقبل التعدُّدَ ما لم تُفَكَّ الرابطةُ الزوجية وتَنْقَضِ عِدَّتُها، لذلك يحرم على الزوجة أن تنكح زوجًا آخر وهي في عصمة زوجها. وهذا الحقُّ المشترك الأصيل بين الزوجين هو أثرٌ شرعيٌّ وطبيعيٌّ ناجمٌ عن صحَّة عقد النكاح، إذ المتمعِّنُ في مقاصد الزواج ومراميه يُدرك أنها لا تُحَقَّق إلاَّ بحِلِّ استمتاعٍ بينهما جلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة، وقد أفصح ابن قدامة -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: «ولأنَّ النكاح شُرِع لمصلحة الزوجين ودفعِ الضرر عنهما، وهو مُفْضٍ إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرجل، فيجب تعليلُه بذلك ويكون النكاح حقًّا لهما جميعًا، ولأنه لو لم يكن لها فيه حقٌّ لَما وجب استئذانها في العزل كالأَمَة»(28). ثانيًا: ثبوت النسب: وتبعًا لحِلِّ الاستمتاع فإنَّ ما يحصل للزوجين من ولدٍ أثناء قيام الرابطة الزوجية المترتِّبة على الزواج الشرعيِّ -باعتباره وسيلةَ إيجاد النسل- فإنَّ نسب الولد يثبت من الزوج صاحب الفراش(29) على أنه ولدُه من زوجته التي هي أمُّه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»(30)، وتبعيةُ نسب الولد لأبيه مُجْمَعٌ عليها(31) لقوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: 5]، ونسبُه إليها حقٌّ لها ثابتٌ قطعًا لانفصاله عنها، وإنما يلحق نسبُ الولد بأمِّه فقط عند انقطاع نسبه من جهة أبيه. هذا، وليس ثبوت النسب قاصرًا على الوالدين، بل يثبت حقُّ الولد في الانتساب لأبيه الذي خلقه الله من مائه، وحقُّ ثبوت النسب مندرجٌ في حقِّ الله تعالى، فلا يملك أحدٌ منهما نفيَ نسب الولد بعد ثبوته، أو إثباتَه لغير صاحبه، إذ ينبغي إبعادُ كلِّ الأجانب والغرباء من المشاركة في نسبه الحقيقيِّ، ولهذا أبطل الله تعالى التبنِّيَ لكونه معدودًا من تزوير النسب. فطبيعة النسب -إذن- وما يتضمَّنه من تبعية حقِّ الوالدين والولد لحقِّ الله تعالى تكوِّن ضمانةً أساسيةً في ثبوت نسب الولد واستقراره العائليِّ، والمحافظةِ على كلِّ ما مِن شأنه أن يهزَّ مركزه الشرعيَّ في المجتمع وما يترتَّب على ذلك المركز من حقوقٍ والتزاماتٍ، وذلك بسبب ما تجرفه الأهواء والنزوات من التلاعب بمصير النسب بالاختلاط أو المشاركة في غير النسب الحقيقيِّ. ثالثًا: ثبوت حرمة المصاهرة: يترتَّب على حِلِّ العشرة الزوجية التي أساسها عقد الزواج الشرعيِّ ثبوتُ حرمة المصاهرة، وهي تتمثَّل فيما يلي: - يحرم على الرجل أن يتزوَّج بأمَّهات زوجته بمجرَّد العقد عليها على الأصحِّ لإطلاق قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ [النساء: 23]، فإن دخل بامرأته فتحرم عليه أمَّهاتها بالإجماع(32). - يحرم على الرجل أن يتزوَّج ببنت زوجته -وهي ربيبتُه- إن كان قد دخل بأمِّها، فإن عقد على أمِّها ولم يدخل بها جاز أن يتزوَّج ابنتَها أو بفروع بنات أبنائها أو بنات بناتها لقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 23]. - يحرم على المرأة -بعد طلاقها من زوجها أو وفاتِه وانقضاءِ عِدَّتها منه- أن تتزوَّج بآباء زوجها أو أجداده، أو ولدِه أو ولدِ ولده، من الذكور والإناث أبدًا إجماعًا(33) لقوله تعالى: ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ [النساء: 23]، كما يحرم عليها التزوُّجُ بأبنائه وفروع أبنائه وبناته لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 22]. - ويحرم على الزوج -أيضًا- أن يجمع بين زوجته وأختها لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ [النساء: 23]، أو بينها وبين عمَّتها أو خالتها إجماعًا(34) لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»(35)، ونحو ذلك ممَّا هو مبسوطٌ في موضعه. رابعًا: ثبوت حقِّ التوارث: يثبت حقُّ التوارث بين الزوجين بمجرَّد إتمام عقد الزواج ولو لم يتمَّ الدخولُ لأنَّ الصلة الرابطة بينهما هي صلةٌ سببيةٌ: أي: سببها عقد الزواج، فيتوارثان بسببه إلاَّ لوجود مانعٍ من موانع الإرث، وقد حدَّد الله تعالى مقدارَ الميراث لكلٍّ منهما، فإذا ماتت الزوجة أخذ الزوجُ نصفَ تركتها إن لم يكن لها ولدٌ منه أو من غيره، وأخذ رُبُعَ تركتها إن كان لها ولدٌ منه أو من غيره، وإذا مات الزوج أخذت الزوجة رُبُعَ تركته إن لم يكن له ولدٌ منها أو من غيرها، وأخذت ثُمُنَ تركته إن كان له ولدٌ منها أو من غيرها، فكان التنويع في النصيبين مرتبطًا بوجود الفرع الوارث وعدمه، فإذا وجد الفرعُ الوارث للميِّت كان للآخر أقلُّ الفرضين، وإذا انعدم الفرع الوارث للميِّت كان للآخر أكثرُ الفرضين، وهو ميراثٌ ثابتٌ بين الزوجين بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 12]. وعموم هذه الآية يدلُّ على ميراث الزوجين بعضِهما من بعضٍ، سواءٌ كانت بعد الدخول أو قبله، لأنَّ عقد النكاح صحيحٌ مستوفٍ للشروط فتترتَّب عليه أحكامُه ومنها الميراث، ويؤكِّد هذا الحكمَ حديث علقمة عَنْ عَبْدِ اللهِ [بن مسعودٍ رضي الله عنه]، أَنَّهُ أُتِيَ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ لاَ يُفْتِيهِمْ ثُمَّ قَالَ: «أَرَى لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ»، فَشَهِدَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْتَ»(36). وختاما: فهذه هي الحقوق المشتركة بين الزوجين رتَّبها الشارع الحكيم على صحَّة العقد الشرعيِّ وجعل مدار هذه الحقوق على حِلِّ العشرة الزوجية، وقد أشار محمَّد أبو زهرة إلى هذا المحور الأصليِّ بقوله: «.. هذا هو الحقُّ الأصليُّ المشترك، وتبع ذلك حقَّان آخران مشترَكان بينهما هما: حرمة المصاهرة والتوارثُ بين الزوجين، فإنَّ العشرة لمَّا حلَّت بين الزوجين ربطت بينهما لُحْمَةً(37) تشبه لُحْمَةَ النسب أو أقوى، ثمَّ ربطت بين أسرتيهما برباطٍ من المصاهرة، فصارتا كأنهما أسرةٌ واحدةٌ، ولذلك ثبتت بينهما حرمة المصاهرة، ثمَّ ثبت التوارث بسببِ أنَّ حِلَّ العشرة أوجد الصلةَ بين الزوجين بما هو مثل القرابة، وإذا كانت القرابة تُثبت الميراثَ فالزوجية -أيضًا- تُثبت الميراثَ بين الزوجين، تلك هي شريعة اللطيف الخبير»(38). والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا. الجزائر في: 04 من ذي القعدة 1434ه الموافق ل: 10 سبتمبر 2013م