الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد: فإكمالاً للموضوع السابق المتعلِّق ببدعة تقسيم الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ فإنِّي أعقبه بنموذجين آخَرين هما ألصقُ بالتقسيم السابق وأشبهُ بما عليه الفكر الصوفيُّ وهما: تقسيم العلم إلى: علم مسائلَ وفضائلَ ونسبته إلى الشرع كما اصطلح عليه جماعة التبليغ أوَّلاً. وتقسيم الدِّين إلى: لبٍّ وقشورٍ كما دَرَجت عليه الأحزاب الإسلامية ثانيًا، وسأتناولهما في الفرعين التاليين: الفرع الأوَّل تقسيم العلم إلى: مسائل، وفضائل من الوسائل المضلَّة التي تسعى بها جماعةُ التبليغ إلى التهوين مِن طلب العلم الشرعيِّ وإبعادِ طالبه عنه: تقسيمُ الدين إلى: علم مسائلَ وعلمِ فضائل(1)، وما يخلِّفه مِن آثارٍ واعتقادٍ لا يشهد له دليلٌ من الشرع. فجماعة التبليغ تقف في طريق العلم الشرعيِّ بالمرصاد، وتصدُّ عمَّا تسمِّيه بعلم المسائل وهو: علم العقيدة والتوحيد وعلمُ الفقه والخلاف، وما تحتويه هذه العلوم مِن مسائلَ مختلَفٍ فيها، والإحاطةِ بها وبالأدلَّة الشرعية، والعلمِ بمذاهب العلماء ومآخذ الاستدلال. فينأَوْن عن هذا العلم -كإخوانهم الصوفية- لأنه علمٌ -في زعمهم- مبنيٌّ على القيل والقال المنهيِّ عنه والمبطِّئ عن العمل، فإنه -في اعتقادهم- يورث جدلاً وخصامًا وشغبًا ونفرةً لا تحقِّق لَمَّ شملِ المسلمين ولا توحيدَ كلمتم، لذلك يَقْصُرونه على العلماء، ومِن عباراتهم المنفِّرة عن طلب العلم الشرعيِّ: «من كان شيخُه الكتاب؛ كان خطؤه أكثرَ مِن الصواب». وإذا كان العلم الشرعيُّ مقصورًا على أهل العلم الذين يعتنون بعلم المسائل، فإنَّ شأن الداعية إلى الله -عندهم- أن يعتنيَ بعلم الفضائل دون المسائل، فهو العلم الذي يشمِّرون له ساعدَ الجدِّ ويتسابقون في ميدانه، ويحصرون مصادرَ تلقِّي العلم فيه، ويجعلون منهجَهم مقصورًا على ثلاثة كتبٍ وهي: - «رياض الصالحين» للنوويِّ(2) الذي يتدارسون فيه أبوابَ الفضائل دون أبواب العقيدة والفقه، ولا يعرِّجون على فقه الحديث وفهم معانيه. - و«حياة الصحابة» لمحمَّد يوسف الكاندهلوي(3)، وهذا الكتاب والذي قبله خُصَّ بهما العرب. - أمَّا كتاب «تبليغي نصاب» لمحمَّد زكريَّا الكاندهلوي(4) فخُصَّ به العَجَمُ. وقد تضمَّن الكتابان الأخيران -بغضِّ النظر عن كونهما محشُوَّيْن بالأحاديث الضعيفة والموضوعة- بعضَ البدع وخرافاتِ الصوفية وخزعبلاتهم وقصص مشايخ الطُّرُق ورُؤاهم وما تحويه مِن أباطيل، فقد جمع مقرَّرُ علم الفضائل في المنهج التبليغيِّ كلَّ ما هبَّ ودبَّ دون تنقيحٍ وتصفيةٍ أو اعتناءٍ بالصحاح. هذا، ومِن المعلوم أنَّ الشرع حثَّ على طلب العلم، وخصَّ أهله بشرف تحصيله، وأعلى منزلتَهم بحسب درجاتهم في العلم والعمل والدعوة، مِن غير اعتبارٍ لتقسيم العلم إلى المسائل والفضائل وتفصيله وترتيب النتائج عليه. وممَّا يدلُّ على بطلان مذهبهم هذا وفساد تقسيمهم للعلم أنه لا تدلُّ عليه حجَّةٌ شرعيةٌ مِن كتابٍ أو سنَّةٍ -هذا من جهةٍ- ولأنَّ هذا التقسيمَ -من جهةٍ ثانيةٍ- يخلِّف آثارًا سيِّئةً مِن أعظمها: - التفريق بين الأحكام والفضائل، والفصلُ بينهما في أيِّ شعيرةٍ مطلوبةِ العمل والامتثال تأباه شريعةُ الإسلام، ذلك لأنَّ الفضائل لا تتحقَّق في الواقع بمعزِلٍ عن الأحكام؛ لأنَّ الفضائل نتائجُ الأحكام الشرعية وثمارُها المتولِّدة منها، فشعيرة الوضوء أو الصلاة -مثلاً- لا ينال المكلَّف فضائلَها إلاَّ إذا امتثل الحكمَ المأمور به على الوجه الذي شرعه الله وبيَّنه نبيُّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكذلك في سائر الشعائر الأخرى، بل -إضافةً إلى ذلك- فإنه لا يُنال فضلُ الشعيرة واستحقاقُ الدرجات إلاَّ بعملٍ مشروطٍ بسلامة العقيدة وصفاء التوحيد مِن أيِّ كدرٍ شركيٍّ أو بدعيٍّ تتجسَّد فيه معاني الإخلاص والمتابعة عملاً بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. - ومن آثار فساد تقسيمهم للعلم إلى: علم مسائلَ وعلمِ فضائل: تفريقُهم بين العالم والداعية، فيُوحون إلى طالب العلم الشرعيِّ بأنَّ السعي لتحصيل العلم بالأدلَّة الشرعية ومعرفة مذاهبِ العلماء ومآخذِ استدلالهم وطرقِ ترجيحاتهم مِن اختصاص العلماء، فيثبِّطون عزيمته بدعوى أنه مسعًى صعبُ المنال يصرف الإنسانَ عن العمل ويورث الجدالَ والخصومة والنفرة. بينما الداعية -عندهم- لا يحتاج إلى هذه الطرق التي تشغل قلبَه ولا تجمع همَّتَه مِن القراءة والكتابة والسفر في طلب العلم، وإنما طريقهم الأنجع وسبيلهم الأيسر هو العلم بوساوس الصوفية مِن الوجد والذوق و«حدَّثني قلبي عن ربِّي»(5)، مع الإيحاء إلى مريد طلب العلم أنه لا يحتاج إلى العلماء لمعرفة الحلال والحرام، فيكفيه أنه يستفتي قلبَه لمعرفة ذلك، فما اطمأنَّت إليه النفسُ فهو الحلال، وما حاك في النفس وتردَّد في الصدر فهو الحرام، عملاً بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الْبِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»(6)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ -ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»(7). ولا يخفى على عاقلٍ أنَّ الدعوة إلى الله يقوم بها أهلُ العلم بمختلَف درجاتهم، كلٌّ بحسب ما اكتسبه مِن العلم النافع، فالعلماء هم الدعاة حقيقةً، وَرِثوا هذا العلمَ عن خير الدعاة وهُمُ الرسل والأنبياء، يبلِّغون العلمَ للناس، ويبيِّنون أحكامَ الله وذِكْرَه وما نزل مِن الحقِّ ويرشدونهم إليه، ليحصل النفعُ والهدى بالحكمة والموعظة الحسنة، فهُمُ القائمون على خير العلم وحقِّ العلم وخير العمل سلوكًا وأخلاقًا ودعوةً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]»(8)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(9)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ»(10)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ»(11)، والنصوص في هذا الباب كثيرةٌ. أمَّا حديث: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ.. وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» فإنما يتعلَّق بالفتوى التي تقترن معها الأسبابُ المانعة مِن الثقة بفتوى المفتي فيها، أو تكون مؤسَّسةً -غالبًا- على مجرَّد الظنِّ أو ميلٍ إلى الهوى مِن غير دليلٍ، فقد يعلم العبدُ مِن نفسه ما لا يعلمه المفتي، وفي هذه الحال يجب على المستفتي أن يترك الفتوى إذا كانت على خلافِ ما حاك في نفسه وتردَّد في صدره، وإنما يعمل بما تطمئنُّ إليه النفسُ وتسكن. أمَّا إذا كانت الفتوى مدعَّمةً بالدليل الشرعيِّ، وتقيَّد المفتي فيها بالكتاب والسنَّة، وكان عالمًا عدلاً متَّصفًا بالصدق والأمانة، محيطًا بوجوه المسألة المطروحة، عالمًا بتفاصيلها؛ فالواجب على المستفتي -والحال هذه- أن يأخذ بالفتوى ويلتزمها وإن لم ينشرح لها صدرُه أو حاكت في نفسه، إذ ليس للمسلم إلاَّ طاعة الله ورسوله لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، بل عليه أن يرضى ويسلِّم عند معرفة الحكم وتلقِّيه من المفتي بانشراح صدرٍ واطمئنان نفسٍ لقوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. الفرع الثاني تقسيم الدين إلى: لُبابٍ وقشورٍ درج الحزبيون ومَن شاكلهم مِن أهل الأهواء -جريًا على خُطى سلفهم المتصوِّفة- على تقسيم الدين إلى: لبابٍ وقشورٍ، وإلى قضايا جوهريةٍ أساسيةٍ وأخرى مظهريةٍ شكليةٍ أو سطحيةٍ هامشيةٍ ليست ذاتَ بالٍ، أو إلى أمورٍ مهمَّةٍ معدودةٍ من معالي الأمور، وأخرى دنيئةٍ مِن سفاسفها، وغير ذلك من المصطلحات الدخيلة والتعبيرات المحدثة التي تعكس في معناها وبُعدها -تمامًا- صورَ المصطلحات الصوفية الموضوعة لنصرة باطلهم وتأييد بِدَعهم، متَّخذين مِن هذه المصطلحاتِ المحدَثة مَنْفذًا يتحرَّرون به مِن التقيُّد بشرائع الدين والالتزامِ بالهدي النبويِّ الظاهريِّ، ليجدوا بذلك -لأنفسهم- حجَّةً للتحلُّل مِن عُرى الإسلام الأصيل بإحداث إسلامٍ متحضِّرٍ -زعموا- تسوغ فيه الأنماط التحرُّرية والمظاهر الغربية -هذا مِن جهةٍ- كما يتَّخذون هذه المصطلحات -من جهةٍ أخرى- ترسًا يختبئون وراءه لئلاَّ يَدَعوا مجالاً لمحاجَّتهم بالنصوص الشرعية فينكشفَ باطلُهم وتبعيَّتُهم، فإذا حصل الاحتجاج عليهم قالوا: «لكم الشكل والمظهر، ولنا الجوهر والمَخْبَر، ولكم القشور ولنا اللباب»، لذلك وصفوا فروعَ الدين والسننَ المهجورة والهديَ الظاهريَّ -من تقصير الثوب وتوفير اللحية وإرخائها، ولُبس الجلباب والنقاب ونحو ذلك- بالقشور وسفاسف الأمور، حيث جعلوا هديَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شعارًا دون تطبيقٍ ومبدأً دون عملٍ، فمن وزن أعمالَه وأقواله وأمورَه بالهدي النبويِّ فإنَّ مصيره الحتميَّ -حسب منطقهم الفاسد- إلى التخلُّف والهلوسة والتطرُّف، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ [الكهف: 5]، أمَّا أركان الدين وأصولُ الإسلام فهي اللباب ومعالي الأمور التي يحبُّها الله دون دنايا الأمور وحقيرها -كما تقدَّم- إعمالاً -زعموا- لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا»(12). ولا يخفى أنَّ دين الإسلام كلٌّ لا يتجزَّأ، وليس -في الشريعة- ما يسمَّى بالقشور وسفاسف الأمور ومحقَّراتها، بل الشريعة وحيٌ كلُّها لبابٌ، وقد أمر اللهُ تعالى عبادَه أن يعملوا -في حدود القدرة- بجميع شُعَب الإيمان وشرائع الإسلام دون تفريقٍ أو تنقُّصٍ في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-(13): «يقول الله تعالى آمرًا عبادَه المؤمنين به المصدِّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وتركِ جميع زواجره، ما استطاعوا مِن ذلك»(14). إذ المعلوم أنَّ كلَّ ما أمر به الشرعُ أو نهى عنه ففيه تحقيقُ مصالح العباد ودفعٌ للمفاسد عنهم، فلا يأمر إلاَّ بالحقِّ الذي ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ولا ينهى إلاَّ عن الباطل الذي يضرُّهم في العاجل والآجل، لذلك يستحيل أن يأمر الوحيُ بتفاهات الأشياء وحقير الأعمال ودنايا الأمور. وشرحُ الحديث بالمعنى الذي فَهِموه وقرَّروه غايةٌ في البطلان، وإنما المراد بمعالي الأمور كلُّ ما يتعلَّق بأمور الدين والإسلام: أصولِه ومبانيه وفروعه وأحكامه ومقاصده، أي: ظاهره وباطنه، كما يتعلَّق -أيضًا- بالأخلاق الشرعية والخصال الحميدة. أمَّا سفاسف الأمور فهي ما يتعلَّق بأمور الدنيا الحقيرة فإنَّ العلوَّ فيها مذمومٌ شرعًا، وكذا التحلِّي بالأوصاف الرديئة والخصال الدنيئة. وقد ورد الحديث بلفظ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»(15)، وقد بيَّن المُناويُّ(16) -رحمه الله- معنى الحديث في معالي الأمور وأشرافها وسفاسفها فقال: «وهي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية، فإن العلوَّ فيها نزولٌ، «ويكره» في رواية البيهقي:«ويبغض». «سفسافها» بفتح أوَّله أي: حقيرها ورديئها، فمن اتَّصف مِن عبيده بالأخلاق الزكيَّة أحبَّه، ومن تحلَّى بالأوصاف الرديئة كرهه. وشرفُ النفس صونُها عن الرذائل والدنايا والمطامعِ القاطعة لأعناق الرجال، فيربأ بنفسه أن يُلقِيَها في ذلك وليس المراد به التيه، فإنه يتولَّد من أمرين خبيثين: إعجابٍ بنفسه وازدراءٍ بغيره، والأوَّل يتولَّد بين خُلُقين كريمين: إعزازِ النفس وإكرامها وتعظيمِ مالكها، فيتولَّد من ذلك شرفُ النفس وصيانتها، وقد خلق سبحانه وتعالى لكلٍّ من القسمين أهلاً»(17). هذا، وفضلاً عن فساد القسمة الاصطلاحية للدين إلى لبابٍ وقشورٍ وخطرِها على الأمَّة فإنه يتضمَّن -أيضًا- قلَّةَ الأدب وسوءَ النيَّة وخبث الطويَّة، قال العزُّ ابن عبد السلام(18) -رحمه الله- جوابًا على مسألةٍ طُرِحَتْ عليه مفادُها: هل يجوز أن يقول المكلَّف: إنَّ الشرع قشرٌ ظاهرٌ، علمُ الحقيقة لبُّه أم لا يجوز؟ فكان نصُّ جوابه: «لا يجوز التعبير عن الشريعة بأنها قشرٌ مع كثرة ما فيها مِن المنافع والخيور، وكيف يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشرًا؟ وأنَّ العلم الملقَّب بعلم الحقيقة جزءٌ من أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلِق مثلَ هذه الألقابِ إلاَّ غبيٌّ شقيٌّ قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: «إنَّ كلام شيخك قشورٌ» لأنكر ذلك غايةَ الإنكار، ويُطلِق لفظَ القشور على الشريعة، وليست الشريعةُ إلاَّ كتابَ الله وسنَّةَ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيُعزَّر هذا الجاهل تعزيرًا يليق بمثل هذا الذنب»(19). وفي جوابٍ على مسألة سماع الغناء قال تقيُّ الدِّين السبكيُّ(20) -رحمه الله-: «وقولهم: «من أهل القشور»: إن أرادوا به ما الفقهاءُ عليه مِن العلم ومعرفة الأحكام فليس مِن القشور، بل هو من اللبِّ، ومن قال عليه: إنه من القشور استحقَّ الأدبَ، والشريعة كلُّها لُبابٌ. وكونهم وصلوا إلى ما لم يصل إليه الفقهاء، فلْيُعلَمْ أنَّ مَن وصل لا يقول هذا الكلام، وكلٌّ من الفقهاء والصادقين واصلٌ إلى ما قُسِم له من ميراث النبوَّة، وكثيرٌ ممَّن سواهم لم يصلوا إلى شيءٍ. وَكُلٌّ يَدَّعُونَ وِصَالَ لَيْلَى * وَلَيْلَى لاَ تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا(21)»(22). هذا، ومن الآثار السيِّئة الناجمة عن التقسيم المحدَث للدين إلى ما أسْمَوْه -كذبًا وزورًا- لبًّا وقشورًا، وجوهرًا ومظهرًا، فإنه بغضِّ النظر عمَّا تقدَّم من اتِّهام الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بكتمان العلم وتغييب الحقيقة وترك التبليغ عن وجود قشورٍ -على حدِّ زعمهم- ليس وراءها أيُّ نفعٍ للإنسان يربو عددُها عن نصف الدين مطروحٍ، فلا يخفى أنَّ من يعتقد ذلك ويَصِفُ هديَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المأمورَ باتِّباعه بالقشور أو أنه أمورٌ هامشيةٌ سطحيةٌ ليست ذاتَ بالٍ فإنه على شفا جُرُفٍ هارٍ، فهو في خطرٍ عظيمٍ ومعرَّضٌ لغضب الله وانتقامه وعقوبته. وتتضمَّن هذه القسمةُ المحدَثة -أيضًا- سوءَ الأدب وقلَّةَ الحياء من الله ورسوله وعامَّة المسلمين -كما دلَّ عليه كلامُ العزِّ بن عبد السلام وتقيِّ الدِّين السبكيِّ السابقين-. كما أنَّ هذه القسمةَ البدعية تؤثِّر -بطريقٍ أو بآخر- في ضعاف العقول والعوامِّ فتدفعهم إلى ترك الاستنان بالهدي النبويِّ والاستخفاف بالأحكام الظاهرة والتنقُّص ممَّن يلتزم بشرائع الإسلام وشُعَب الإيمان، وتخلية القلب من الإنكار -الذي هو أضعف مراتب الإيمان- لأيِّ مخالَفةٍ للهدي النبوي، لأنَّ المنكَر صار -عندهم- معروفًا، والمعروف منكرًا، الأمر الذي يؤدِّي إلى نقض عُرَى الإسلام والتحلُّل من قِيَمِه والْتزاماته، وإلغاء الشخصية الإسلامية الأصيلة بخصائصها المتفرِّدة، وهدم الدِّين والارتماءُ في أحضان التبعية الغربية على وجه التوافق والتجانس والمشاكلة، وما تخلِّفه مِن ولاءِ أبناء المسلمين لغير أمَّة الإسلام وانتمائهم إليهم، وقطعِ صِلتهم بالدِّين ومسخِ هويَّتهم الإسلامية، فهُم -بهذا الشعار الاصطلاحيِّ الفاسد- ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32]. هذا، وقد رأيتُ -من الأنسب- أن أعمِد إلى نصِّ كلامِ ابن قيِّم الجَوزية في بيان شرف العلم الشرعيِّ وفضله، واستحسنتُ أن أجعله خاتمةً لهذا الموضوع. حيث قال -رحمه الله- ما نصُّه: «وأمَّا الكلمات التي تُروى عن بعضهم مِن التزهيد في العلم والاستغناءِ عنه: كقولِ مَن قال: «نحن نأخذ عِلْمَنا من الحيِّ الذي لا يموت، وأنتم تأخذونه من حيٍّ يموت». وقول الآخَر -وقد قيل له: «ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزَّاق؟»- فقال: «ما يَصنع بالسماع من عبد الرزَّاق مَن يسمع مِن الخلاَّق؟». وقول الآخَر: «العلم حجابٌ بين القلب وبين الله عزَّ وجلَّ». وقول الآخَر: «لنا علمُ الحرف، ولكم علمُ الورق». ونحو هذا مِن الكلمات التي أحسنُ أحوال قائلها أن يكون جاهلاً يُعذر بجهله، أو شاطحًا معترفًا بشطحه، وإلاَّ فلولا عبد الرزَّاق وأمثالِه، ولولا «أخبرنا» و«حدَّثنا» لَما وصل إلى هذا وأمثاله شيءٌ من الإسلام. ومَن أحالك على غيرِ «أخبرنا» و«حدَّثنا» فقد أحالك: إمَّا على خيالٍ صوفيٍّ، أو قياسٍ فلسفيٍّ، أو رأيٍ نفسيٍّ. فليس بعد القرآن و«أخبرنا» و«حدَّثنا» إلاَّ شبهاتُ المتكلِّمين، وآراءُ المنحرفين، وخيالاتُ المتصوِّفين، وقياسُ المتفلسفين. ومن فارق الدليلَ ضلَّ عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنَّة سوى الكتاب والسنَّة. وكلُّ طريقٍ لم يصحبها دليلُ القرآن والسنَّة فهي مِن طرق الجحيم والشيطان الرجيم»(23). والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.