الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد: فإنَّ ما أحدثه المتصوِّفة من تقسيم الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ، وعلمِ الباطن والظاهر نصرةً لمذهبهم الباطل، لم يَرِدْ –بتاتًا- ما يؤيِّده من الجانب الشرعيِّ، بل موقفُ علماء السنَّة والأئمَّةِ العدول قائمٌ على رفضِ هذا التقسيم واستنكارِه؛ ذلك لأنَّ الحقيقة -عند المتصوِّفة- هي أن ترى اللهَ المتصرِّفَ في خَلْقه بالمكاشفاتِ والمشاهدات(1)، فيكشفَ للسالك ما يستترُ على الفهم كأنه رأيُ عينٍ من: الهداية والإضلال، والعزَّةِ والذلِّ، والتوفيقِ والخِذلان، والتوليةِ والعزل، والخيرِ والشرِّ، والنفعِ والضرِّ، والإيمانِ والكفر، والفوزِ والخسران، والجهلِ والعرفان، والزيادةِ والنقصان، بقضائه وقدره، وحكمتِه ومشيئته(2). بخلاف الشريعة فهي ما وَرَد به التكليفُ من: الأمر والنهي، والإباحةِ والحَظْر، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ بواسطة الرسل، فالشريعة أن تعبد اللهَ تعالى بوجود الأفعال، بينما الحقيقة -عندهم- فهي تقريبٌ بلا واسطةٍ وإنما هي شهودٌ للأفعال لا لوجودها. فالسالك -في معتقدهم- في ارتقائه في مدارج السالكين ينبغي عليه أن يلتزمَ الشريعةَ ابتداءً، ثمَّ ينتقلُ بالطريقة من حُكم الأوراد إلى الواردات، فيستغني بالوارد عن الوِرْد، وبالحقيقة عن الرسوم، وبالمعاني عن الصور، فيَفُكُّ عن نَفْسه رِقَّ التكليف المختصَّ بعلم الظاهر، ليقومَ بحقيقة الباطن التي يقتضيها الحُكْمُ. ولهذا كانت الحقيقة -في الاعتبار الصوفيِّ- نتيجةً للطريقة والطريقةُ أَثَرَ الشريعة(3)، فظهر ميلُ أهل التصوُّف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، وتعليلُهم لذلك أنَّ الأنبياء والأولياءَ انكشف لهم الأمرُ، وفاض على صدورهم النورُ، لا بالتعلُّم والنظر في المصنَّفات والبحثِ في الأقاويلِ والأدلَّة المذكورة، وإنما حصل لهم ذلك عن طريق تقديم المجاهدة ومحوِ الصفات المذمومة، والزُّهدِ في الدنيا والتبرِّي من علائقها، وتفريغِ القلب من شواغلها، وقطعِ الهمَّة عن الأهل والمال والولد والوطن، والإقبال بأقصى غايات الهمَّة على الله تعالى، ومَن كان للهِ كان اللهُ له. لذلك كانت العلومُ الشرعية والعقلية -عندهم- من جملة العوائق التي تحول دون وصول السالك إلى الحقيقة، فيجب على السالك -عندهم- التخلُّصُ منها وتجاوُزُها إلى المعرفة والقطع، لا إلى العلم والظنِّ الذي عند غيرهم، فالعلمُ طريقُه الجِدُّ، وأمَّا المعرفة فطريقُها الكشفُ والعيان، والعلمُ -في منظورهم- حجابٌ عن المعرفة وإن كان لا يُوصَل إليها إلاَّ بالعلم، فالعلمُ بمثابة الصِّوَان الصائن لِما تحته فهو حجابٌ عليه، ولا يُوصَل إليه إلاَّ منه(4). فهذه هي طريقةُ أهل التصوُّف في اكتساب المعرفة الكشفية التي هي الميزانُ التقويميُّ في مسائل الإيمان والاعتقاد، مخالفين في ذلك ما فَرَضَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على كلِّ مسلمٍ مِن طلبِ العلم الشرعيِّ(5)، وجَعَل سلوكَه طريقًا إلى الجنَّة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»(6)، كما أكَّد أنه لا طريقَ للوصول إلى العلم الشرعيِّ إلاَّ بالتعلُّم وبذلِ الجهد في طلبه وتحصيله في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّى الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقَهُ»(7). وهذا أبو حامدٍ الغزَّاليُّ(8) -من جهته- يوضِّح الميزانَ الكشفيَّ التقويميَّ ويعتبر أنه به توسَّط الصوفيةُ بين انحلال المؤوِّلة وجمودِ الحنابلة في مَنْعِ التأويل حيث قال: «وحَدُّ الاقتصاد بين هذا الانحلال كلِّه وبين جمود الحنابلة دقيقٌ غامضٌ لا يطَّلع عليه إلاَّ الموفَّقون الذين يدركون الأمورَ بنورٍ إلهيٍّ لا بالسماع [أي: الكتاب والسنَّة]، ثمَّ إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرَّروه وما خالف أوَّلوه، فأمَّا من يأخذ معرفةَ هذه الأمور من السمع المجرَّد [أي: الكتاب والسنَّة] فلا يستقرُّ له فيها قدمٌ ولا يتعيَّن له موقفٌ، والأليقُ بالمقتصر على السمع المجرَّد مقامُ أحمد بن حنبلٍ -رحمه الله-، والآن فكشفُ الغطاء عن حدِّ الاقتصاد في هذه الأمور داخلٌ في علم المكاشفة»(9). وهذا الأمر هو الذي دَفَعهم إلى أن يفضِّلوا مقامَ الوليِّ على مقام النبيِّ، بالاعتماد على التفرقة بين الشريعة والحقيقة، فأضافوا الشريعةَ إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم دون الحقيقة التي أُسْنِدتْ إلى الخَضِرِ الوليِّ الصالح، فهو صاحبُ الحقيقة وهو -عندهم- إمامُ أصحاب المكاشفات ومنه يستفيدون علومَهم. لذلك كان مقالُ الوليِّ -حالَ التعارض- مقدَّمًا على مقال الشرع. وحجَّتُهم في ذلك -باللزوم- أنه إذا تقرَّر أنَّ الخَضِرَ أعلمُ من موسى عليه السلام فيَلْزَم أن يكون -ثمَّةَ- أولياءُ من أمَّة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أَعْلَمُ من محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وبلوروا حجَّتَهم بأنَّ الوليَّ له علمُ الحقيقة فلا يجوز الإنكار عليه، بل الواجبُ الإقرارُ له بالتحقيق كما أقرَّ موسى عليه السلام صاحبُ الشريعة للخَضِرِ صاحبِ الحقيقة، فما يكون معصيةً في الشريعة قد يكون طاعةً وقُربةً في الحقيقة الصوفية، ولهذا قالوا: مَنْ نَظَر إلى الناس بعين العلم مَقَتَهم، ومَن نَظَر إليهم بعين الحقيقة عَذَرَهم(10). وضِمْن هذا التصوُّر في الفكر الصوفيِّ يقول أبو عبد الله السنوسيُّ المستغانميُّ(11) وهو يصف درجةَ أهل حقِّ اليقين: «وهُمُ الراسخون من أهل التمكين، كفاهم عن طلب الأحكام ما آتاهم ربُّهم مِن العلوم الدافقة على سرائرهم المطابِقة لعين ما شرعه على لسان رسوله: تنزيلاً لا نزولاً يقتضي شرعًا أو نبوَّةً، فكان بعضُهم يقول: «حدَّثني قلبي عن ربِّي»، وبعضُهم يُسأل عن الشيء فيقول: «حتَّى أسألَ عنه جبريل».. فحُكْمُهم بما كشفوا، وعلمُهم ما مِن بحر المواهب اغترفوا، فطريقُهم عن التقليد شاسعةٌ، ومناهجُ يقينهم واسعةٌ، وكيف يقلِّد مَن امتطى مِن اليقين دارَه؟... وما أَحْسَنَ ما قيل في هذا المعنى: وَمَنْ يَسْمَعِ الأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطٍ * حَرَامٌ عَلَيْهِ سَمْعُهَا بِالوَسَائِطِ»(12) هذا، ولا يخفى على أهل الحقِّ أنَّ الميزان الحاكمَ المزكِّيَ إنما هو الشرع، ولو كان ما يقع من الأحوال والمكاشفات والإلهامات والخوارق حاكمًا على الشرع بتخصيص عامٍّ، أو تقييد مطلقٍ، أو تأويل ظاهرٍ ونحوِ ذلك؛ لَلَزِمَ أن يصير الشرعُ محكومًا عليه لا حاكمًا، وهذا باطلٌ بإجماع المسلمين. لذلك كانت الشريعةُ كلُّها حقائقَ كما قال ابنُ الجوزيِّ(13)(14) -رحمه الله- وغيرُه، وإنما أتى المتصوِّفةُ بهذه القسمةِ الكاسدةِ لنُصرة باطلهم وتأييدِ بِدَعِهم وخرافاتهم حتى لا يَدَعُوا مجالاً لاحتجاج الناس عليهم بالنصوص الشرعية فتنكشفَ أباطيلُهم بمخالفتهم للمنهج الإسلاميِّ السويِّ. وفي نطاق هذا المعنى استنكر ابنُ القيِّم(15) -رحمه الله- -بشدَّةٍ- هذه القسمةَ الصوفيةَ للدين إلى باطن الحقيقة وظاهر الشريعة حيث قال -رحمه الله-: «ومِن كيدِه -يعني الشيطان-: ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوِّفة من الشطح والطامَّات، وأَبْرَزَه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والتُرَّهات، وفَتَحَ لهم أبوابَ الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم أنَّ وراء العلم طريقًا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العيان، وأغناهم عن التقيُّد بالسنَّة والقرآن. فحسَّن لهم رياضةَ النفوس وتهذيبَها، وتصفيةَ الأخلاق والتجافيَ عمَّا عليه أهلُ الدنيا وأهلُ الرياسة والفقهاءُ وأربابُ العلوم، والعملَ على تفريغ القلب وخلوِّه من كلِّ شيءٍ، حتى ينتقش فيه الحقُّ بلا واسطة تعلُّمٍ. فلمَّا خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسولُ نَقَش فيه الشيطانُ بحسَب ما هو مستعدٌّ له من أنواع الباطل، وخيَّله للنفس حتى جَعَلَه كالمشاهَد كشفًا وعيانًا. فإذا أنكره عليهم وَرَثَةُ الرسل قالوا: «لكم العلمُ الظاهر ولنا الكشفُ الباطن، ولكم ظاهرُ الشريعة وعندنا باطنُ الحقيقة، ولكم القشورُ ولنا اللُّباب». فلمَّا تمكَّن هذا من قلوبهم سَلَخَها من الكتاب والسنَّة والآثار كما ينسلخ الليلُ عن النهار، ثمَّ أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها عن الآيات البيِّنات، وأنها مِن قِبَل اللهِ سبحانه إلهاماتٌ وتعريفاتٌ، فلا تُعْرَض على السنَّة والقرآن، ولا تُعَامَلُ إلاَّ بالقَبول والإذعان. فلِغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطانُ من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان، وكلمَّا ازدادوا بُعدًا وإعراضًا عن القرآن وما جاء به الرسولُ كان هذا الفتحُ على قلوبهم أَعْظَمَ»(16). هذا، ومِن جرَّاء هذا التقسيم المُحْدَث للدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ، والعلمِ إلى باطنٍ وظاهرٍ، ودعوى أنَّ حقيقة الباطن مخالِفةٌ لشريعة الظاهر؛ فقد ترتَّبت -على هذا المعتقَد- آثارٌ سيِّئةٌ للغاية، منحرفةٌ عن سواء السبيل نذكر منها: • أوَّلاً: اتِّهامَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بكتمان العلم عن الله تعالى لكونه لم يبلِّغ عن أفرادٍ خصَّهم اللهُ بعلم الحقيقة الباطنية، وأولياءَ خُصُّوا بالتلقِّي مباشرةً عن الله تعالى. ولا ريب أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قام بواجب التبليغ خيرَ قيامٍ، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَايْمُ اللهِ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ»(17)، وأنه صلَّى الله عليه وسلَّم امتثل لأمر ربِّه تعالى في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67]، فقام بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، فلم يترك أمرًا من أمور الدين صغيرًا كان أو كبيرًا إلاَّ وبلَّغه لأمَّته، وشهدت له أمَّتُه واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خُطبة الوداع يوم الحجِّ الأكبر عامَ حَجَّة الوداع(18)، فأقرُّوا له بذلك. ثمَّ إنه -من جهةٍ أخرى- يُفضي مثلُ هذا الاعتقاد إلى أنَّ الوحي لم ينقطع ولم يَخْتِمِ اللهُ تعالى بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم رسالاتِه(19) ما دام أنَّ ثَمَّةَ أفرادًا بعده خُصُّوا بالتلقِّي عن الله مباشرةً، وهو اعتقادٌ فاسدٌ يردُّه قولُه تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم لعليٍّ رضي الله عنه: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي»(20)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الكُفْرُ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا العَاقِبُ وَالعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ»(21). • ثانيًا: تُفضي قسمةُ الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ إلى الاعتقاد بأنَّ مرتبة الكشف والإلهامِ أعظمُ وأشرفُ من مرتبة الوحي. ولا يخفى بطلانُ هذا المعتقد، لأنَّ عِلْمَ الشريعة هو علمُ الحقيقة، لا يُنال إلاَّ من جهة الوحي الذي طريقُه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما اختُصَّ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم وورثتُه الكرامُ أفضلُ ممَّا يَشْرَكُهم فيه بقيَّةُ الناس، فكان اتِّباعُ الوحي والعملُ بنصوصه والأخذُ بأدلَّته أصلاً عظيمًا مِن أصول دين الإسلام، لذلك وجب الاعتصامُ بالوحي دون غيره، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: 3]، وقولُه تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 106]، وقولُه تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 155]، وقولُه تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [النساء: 59]. والأدلَّةُ على الاعتصام بالوحي -أي: الكتاب والسنَّة- لا تكاد تنحصر. • ثالثًا: كما تفضي قسمةُ الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ إلى الاعتماد على الكشف والذوق(22) والتخلِّي عن الشرع، إذ يُعتقد أنَّ مع الوليِّ مِن العلم الباطنيِّ المستفادِ بالمكاشفة والمخاطبةِ ما يستغني به عن متابعة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في جميع أحواله أو في بعضها، سواءٌ تحقَّقت الموافقةُ بينهما أو تعارضت، إذ إنَّ مِن مسالك المتصوِّفة تقديمَ الذوق والكشفِ على ظاهر الشرع عند التعارض. ولا يخفى أنَّ الاعتماد على الكشف أو غيرِه بمنأًى عن الشرع أو تقديمَه عليه يُعَدُّ من أصول الإلحاد(23)، إذ لا يمكن الوصولُ إلى الحقيقة خارجَ الشريعة التي جاء بها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فدعوى عدمِ الافتقار إلى طريق النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ضلالٌ وإلحادٌ، وقد أجمع السلفُ والخلف على أنه لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعةٌ إلى أمره ونهيه إلاَّ من جهة الرسل. وفي هذا المعنى قال ابنُ تيمية(24) -رحمه الله-: «ومن ادَّعى أنَّ مِن الأولياء الذين بلغتهم رسالةُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مَن له طريقٌ إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمَّدٍ فهذا كافرٌ مُلْحِدٌ، وإذا قال: أنا محتاجٌ إلى محمَّدٍ في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شرٌّ من اليهود والنصارى الذين قالوا: إنَّ محمَّدًا رسولٌ إلى الأمِّيين دون أهل الكتاب، فإنَّ أولئك آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ فكانوا كفَّارًا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إنَّ محمَّدًا بُعث بعلم الظاهر دون عِلْمِ الباطن آمن ببعضِ ما جاء به وكَفَر ببعضٍ فهو كافرٌ، وهو أكفرُ من أولئك؛ لأنَّ عِلْمَ الباطن الذي هو علمُ إيمان القلوب ومعارفِها وأحوالِها هو علمٌ بحقائقِ الإيمان الباطنة، وهذا أشرفُ من العلم بمجرَّد أعمال الإسلام الظاهرة، فإذا ادَّعى المدَّعي أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم إنما عَلِمَ هذه الأمورَ الظاهرةَ دون حقائقِ الإيمان؛ وأنه لا يأخذ هذه الحقائقَ عن الكتاب والسنَّة؛ فقد ادَّعى أنَّ بعض الذي آمن به ممَّا جاء به الرسولُ دون البعض الآخَر، وهذا شرٌّ ممَّن يقول: أؤمن ببعضٍ وأكفر ببعضٍ ولا يدَّعي أنَّ هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين»(25). وقال الشنقيطيُّ(26) -رحمه الله-: «وبالجملة، فلا يخفى على مَن له إلمامٌ بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تُعْرَف بها أوامرُ الله ونواهيه، وما يُتقرَّب إليه به مِن فعلٍ وتركٍ إلاَّ عن طريق الوحي، فمن ادَّعى أنه غنيٌّ -في الوصول إلى ما يُرضي ربَّه- عن الرسل وما جاءوا به -ولو في مسألةٍ واحدةٍ- فلا شكَّ في زندقته(27)، والآياتُ والأحاديث الدالَّة على هذا لا تُحصى، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، ولم يقل حتى نُلْقِيَ في القلوب إلهامًا، وقال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه: 134] الآية، والآياتُ والأحاديث بمثل هذا كثيرةٌ جدًّا، .. وبذلك تعلم أنَّ ما يدَّعيه كثيرٌ من الجَهَلة المدَّعين التصوُّفَ مِن أنَّ لهم ولأشياخهم طريقًا باطنةً توافق الحقَّ عند الله -ولو كانت مخالِفةً لظاهر الشرع كمخالَفة ما فَعَله الخَضِرُ لظاهر العلم الذي عند موسى- زندقةٌ وذريعةٌ إلى الانحلال بالكلِّيَّة من دين الإسلام، بدعوى أنَّ الحقَّ في أمورٍ باطنةٍ تخالف ظاهِرَه»(28). • رابعًا: ومِن آثار قسمة الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ: ادِّعاءُ كونِ مرتبةِ الوليِّ أعظمَ من مرتبة الرَّسول، لأنَّ الوليَّ له علمُ الحقيقة والرسولَ له علمُ الشريعة، وعلمُ الحقيقة هو مشاهَدة القَدَر، وهو ذلك العلمُ الذي عارض به الخَضِرُ شريعةَ موسى عليه السلام -بزعمهم- حتى أنكر عليه موسى عليه السلام، ثمَّ أقرَّ له بعد أن عَرَف أنَّ ما عند الخَضِرِ عليه السلام هو العلمُ اللَّدُنيُّ وهو علمُ الحقيقة. وهذا -بلا شكٍّ- ظاهرُ البطلان -أيضًا- لأنه لم تكن شريعتُه التي كان عليها الخَضِرُ عليه السلام مبايِنةً في حقيقتها للشريعة التي عليها موسى عليه السلام، وإنما كان يخفى على موسى عليه السلام أسبابُ تلك الأفعال التي فَعَلَها الخَضِرُ، ولذلك لمَّا عَلِمَها لم يُنْكِر عليه ثانيةً. والخَضِرُ إنما قام بتلك الأفعال عن أمرِ الله تعالى -من منطلق نبوَّته- كما قال تعالى -حكايةً عنه-: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82]، وليس أمرُ الله مشاهدةَ القدر بالمكاشفة والذوق، بل أمرُ الله تعالى إنما يُعلم بالوحي ولا سبيلَ غيرُه(29). قال الشنقيطيُّ -رحمه الله-: «وبهذا كلِّه تعلم أنَّ قَتْلَ الخَضِرِ للغلام، وخَرْقَه للسفينة، وقولَه: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾، دليلٌ ظاهرٌ على نبوَّته»(30). ثمَّ إنَّ المطلوبَ -شرعًا- إنما هو مشاهدةُ الشريعة المتضمِّنةِ للحقيقة، أمَّا القَدَرُ فهو سرُّ الله تعالى في خَلْقِه لم يطَّلع عليه مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ، فضلاً عن أدعياء المكاشفات والمنامات والأذواق من المتصوِّفة. هذا، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ المعلوم بالضرورة أنَّ الله أرسل نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الخلق كافَّةً بشيرًا ونذيرًا إنسِهم وجِنِّهم، وحكمُه باقٍ إلى قيام الساعة. وقد صحَّ -بالنصوص الحديثية- أنَّ عيسى عليه السلام حين ينزل من السماء فإنه يكون متَّبِعًا لشريعة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم كما جاء في حديث: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ»، وقد فسَّره ابنُ أبي ذئبٍ(31) -أحدُ رُوَاته- بقوله: «فأمَّكم بكتاب ربِّكم تبارك وتعالى وسنَّةِ نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم»(32). بل الأنبياءُ جميعًا لو كانوا أحياءً بعد بِعثته صلَّى الله عليه وسلَّم ما وَسِعَهم إلاَّ اتِّباعُه، وهو الميثاقُ الذي أخذه الله عليهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81](33). وقد ثَبَت مِن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قصَّة عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه حين أمسك بصحيفةٍ من التوراة فأنكر عليه صلَّى الله عليه وسلَّم وقال له: «أَمُتَهَوِّكُونَ(34)فِيهَا يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي»(35). قال ابن أبي العزِّ(36) -رحمه الله-: «وأمَّا من يتعلَّق بقصَّة موسى مع الخَضِر عليه السلام، في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللَّدُنيِّ الذي يدَّعيه بعضُ مَن عَدِم التوفيقَ؛ فهو مُلْحِدٌ زنديقٌ، فإنَّ موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخَضِر، ولم يكن الخَضِرُ مأمورًا بمتابعته، ولهذا قال له: «أنت موسى بني إسرائيل؟» قال: «نعم»، ومحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم مبعوثٌ إلى جميع الثَّقَلين، ولو كان موسى وعيسى حيَّين لكانا مِن أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمَّدٍ، فمَن ادَّعى أنه مع محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم كالخَضِر مع موسى، أو جوَّز ذلك لأحدٍ من الأمَّة؛ فلْيجدِّدْ إسلامَه، ولْيَشهدْ شهادةَ الحقِّ، فإنه مفارِقٌ لدين الإسلام بالكلِّيَّة، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو مِن أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرِّقٌ بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة، وكذا مَن يقول بأنَّ الكعبة تطوف برجالٍ منهم حيث كانوا!! فهلاَّ خرجت الكعبةُ إلى الحُدَيْبِيَة فطَافَتْ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أُحْصِرَ عنها وهو يوَدُّ منها نظرةً؟! وهؤلاء لهم شَبَهٌ بالذين وصَفَهم الله تعالى حيث يقول: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً. كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ الآخِرَةَ. كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدَّثِّر: 52-56]»(37). وعليه، فإنه إذا كان لا يُستثنى أحدٌ من متابعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الأنبياء والمرسلين؛ فالخَضِرُ إن كان نبيًّا فلا يخرج حكمُه عن سائر الأنبياء، وإن كان وليًّا فحريٌّ أن لا ينفكَّ عن شريعة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم بالأَوْلى، وغيرُه مِن الأولياء بالأحرى. قال ابن تيمية -رحمه الله- عن هؤلاء المتصوِّفة الذين يدَّعون أنَّ «الولاية»(38) أفضلُ من «النبوَّة» بأنهم: «يلبِّسون على الناس فيقولون: ولايتُه أفضلُ من نبوَّته وينشدون: مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ * فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الوَلِي ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظمُ من رسالته، وهذا مِن أعظم ضلالهم، فإنَّ ولاية محمَّدٍ لم يماثله فيها أحدٌ لا إبراهيم ولا موسى، فضلاً عن أن يماثله هؤلاء الملحدون. وكلُّ رسولٍ نبيٌّ وليٌّ، فالرسول نبيٌّ وليٌّ، ورسالتُه متضمِّنةٌ لنبوَّته، ونبوَّتُه متضمِّنةٌ لولايته. وإذا قدَّروا مجرَّدَ إنباءِ الله إيَّاه بدون ولايته لله فهذا تقديرُ ممتنِعٍ فإنه حالَ إنبائه إيَّاه ممتنِعٌ أن يكون إلاَّ وليًّا لله، ولا تكون مجرَّدةً عن ولايته، ولو قُدِّرت مجرَّدةً لم يكن أحدٌ مماثلاً للرسول في ولايته»(39). • خامسًا: ومِن آثار قسمة الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ: التهوينُ بعلماء الأمَّة ومركزِهم العلميِّ، والتقليلُ من مكانتهم وشأنِهم، ووصفُهم بأنهم عوامُّ حُجِبوا عن علوم الحقيقة بما عَلِموه من ظواهر الشريعة بناءً على قسمتهم الباطلة. ولا يخفى أنَّ عِلْمَ الشريعة -خبرًا وطلبًا- لا يُنال إلاَّ من جهة الوحي الذي طريقُه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما دلَّ أمَّتَه عليه من شريعةٍ فهو الحقيقةُ التي لا يعمل بها إلاَّ المؤمنون المتَّقون الذين هم أولياؤه وأحبابُه وصفوتُه، ذلك لأنَّ «الفاصل بين أهل الجنَّة وأهل النَّارِ الإيمانُ والتقوى الذي هو نعتُ أولياء الله كما قال: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62-63]»(40)، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. إذ لا بدَّ من التفريق بين كلمات الله الكونية القدرية التي لا يتجاوزها بَرٌّ ولا فاجرٌ، وبين الكلمات الشرعية الدينية الأمرية التي فيها محبَّتُه وطاعتُه ورضاه، وهي خاصَّةُ أنبيائِه وأوليائه المؤمنين، فما اختُصَّ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم وَوَرَثَتُه من العلماء الربَّانيين ومِن أهل الإيمان والتقوى أفضلُ ممَّا يَشْرَكُهم فيه بقيَّةُ الناس. • سادسًا: وبناءً على التفريق المزعوم بين الحقيقة والشريعة فقد أيَّدوا معتقدَهم الباطلَ بتفسير القرآن تفسيرًا مؤوَّلاً يناسب طريقتَهم، وحرَّفوا معانيَ السنَّة النبويَّة تحريفًا يتوافق مع أهوائهم، وصحَّحوا الأحاديثَ الضعيفة والموضوعة وما ليس بحديثٍ أصلاً، بناءً على الكشف المزعوم والإلهام المدَّعى، الأمرُ الذي أفضى إلى نسبة جملةٍ من الأحاديث المكذوبة إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما دار عليها من اعتقادٍ وعملٍ، كلُّ ذلك لتأييد باطلهم ونصرة معتقداتهم. • سابعًا: ومِن منطلق التفريق المزعوم بين الحقيقة والشريعة سلك المتصوِّفةُ سبيلَ التنفير مِن طلب العلم الشرعيِّ، واعتبروه سبيلاً للمعاصي وجالبًا للأخطاء، قال الجُنَيْد(41): «أُحِبُّ للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبَه بهذه الثلاث، وإلاَّ تغيَّر حالُه: التكسُّب وطلبُ الحديث والتزوُّجُ»، وقال: «أُحِبُّ للصوفيِّ أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمعُ لهمِّه»(42)، وجاء عن الجنيد أنه قال -أيضًا-: «ما أخَذْنا التصوُّفَ عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطعِ المألوفات والمستحسَنات»(43)، وقال أبو سليمان الدارانيُّ(44): «إذا طلب الرَّجُلُ الحديثَ أو سافر في طلب المعاش أو تزوَّج فَقَدْ ركن إلى الدنيا»(45). ولم يكتفِ المتصوِّفةُ بتنفير الناس مِن العلم الشرعيِّ ووسائله، بل راحوا يهدمون إسنادَ الحديث ويصحِّحون الأحاديثَ الضعيفة والمنكرة والموضوعة عن طريق الكشف، قال ابن عربيٍّ(46): «علماء الرسوم(47) يأخذون خلفًا عن سلفٍ إلى يوم القيامة، فيبعد النسبُ، والأولياء يأخذون عن الله ما ألقاه في صدورهم»(48)، وقال أبو يزيدَ البسطاميُّ(49): «أخذتم عِلْمَكم مِن علماء الرسوم ميِّتًا عن ميِّتٍ، وأخَذْنا عِلْمَنا عن الحيِّ الذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدَّثني قلبي عن ربِّي، وأنتم تقولون: حدَّثني فلان، وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان، وأين هو؟ قالوا: مات»(50)، كما ألغى المتصوِّفةُ -في حقِّهم- مبدأَ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وعطَّلوا وظيفتَه بدعوى أنَّ كلَّ ما يخالِف فيه أهلُ المكاشفات الشريعةَ الظاهرة فلا يجوز أن يُنْكَر عليهم لِما يحملونه مِن علم الحقيقة المعلومةِ عندهم، والمجهولةِ عند أئمَّة الشريعة وعلماءِ الدين والسنَّة، تلك الحقيقةُ المبنيَّة -في تصوُّرهم- على مشاهدة القَدَر بالكشف المزعوم، المؤدِّيةُ إلى إسقاط التكليف من الأمر والنهي، وما ترتَّب عليها من اعتقاداتٍ فاسدةٍ وانحرافاتٍ خطيرةٍ -تقدَّم ذكرُ بعضها-. كلُّ ذلك إنما حَصَل لهم بسبب الطريقة الإبليسية بعد أن صرفوا أنْفُسَهم عن مجالس التذكير والعلم، ومدارسةِ السنَّة النبوية، وحَجَبوا أنْفُسَهم عن مجالسة أهل العلم والإيمان، بل جعلوا الشريعةَ من شرائط الطريقة، ثمَّ يصل السالك بالطريقة إلى الحقيقة، فيستغني بها عن الرسوم وبالمعاني عن الصور، فيَخْلُصُ مِن رِقِّ التكليف المختصِّ بالعلم ليقومَ بالحقيقة التي يقتضيها الحكمُ، فادَّعَوْا أنَّ القلب إذا كان محفوظًا مع الله تعالى كانت خواطرُه معصومةً من الخطإ، فأوجب لهم هذا المسلكُ الطرائقيُّ تلك المقالةَ الشنيعة. وقد ذَكَر الحافظُ ابن حجرٍ(51) -رحمه الله- تعقُّبَ أهل التحقيق مقالةَ أهل الطريق فقال: «لا يُلتفت إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ إذا وافق الكتابَ والسنَّةَ، والعصمةُ إنما هي للأنبياء، ومَن عداهم فقد يخطئ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأسَ الملهَمين، ومع ذلك فكان ربَّما رأى الرأيَ فيُخبره بعضُ الصحابة بخلافه فيَرجع إليه ويترك رأيَه، فمَن ظنَّ أنه يكتفي بما يقع في خاطره عمَّا جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظمَ الخطإ، وأمَّا مَن بالغ منهم فقال: «حدَّثني قلبي عن ربِّي» فإنه أشدُّ خطأً، فإنه لا يأمن أن يكون قلبُه إنما حدَّثه عن الشيطان، واللهُ المستعان»(52). هذا، ويتَّضح بجلاءٍ أنَّ ما يدَّعيه الصوفية من تقسيم الدين إلى: حقيقةٍ وشريعةٍ، والعلمِ إلى: باطنٍ وظاهرٍ كذبٌ وافتراءٌ، وقد استنكره أئمَّة الدين والفقهاءُ العدول، فشريعةُ الله المقرَّرةُ هي الحقيقةُ المعصومة بالكتاب والسنَّة، وفيها بيانٌ لأعمال القلوب والجوارح. والواجبُ في حقِّ كلِّ وليٍّ أن يكون معتصمًا بالكتاب والسنَّة مقتديًا بهما تابعًا لهما وازنًا أفعالَه وأقواله وجميعَ أحواله بميزان الشريعة المطهَّرة، فليس في أولياء الله مَن يُلقى إليه في قلبه ما لا يحتاج إلى عَرْضِه على الكتاب والسنَّة ويمكنُ له الوصولُ إلى الحقيقة دون الشريعة، فمَن ابتغى في غير الشريعة أَمْرَه فليس مِن أولياء الله في شيءٍ، وهو إمَّا أن يكون زنديقًا مارقًا أو مفرطًا كاذبًا(53). فهؤلاء أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذين هم مرجعُ الإفتاء ومنبعُ الاجتهاد قد طلبوا العلمَ الشرعيَّ، وجدُّوا في السعي إلى تحصيله، واجتهدوا في روايته ونقله، ورزقهم الله تعالى فهمًا صحيحًا لنصوص الكتاب والسنَّة، ونظرًا صائبًا لمعانيهما ومراميهما، فوصفهم اللهُ بالخيرية بقيامهم بما يأمر به الكتابُ والسنَّة مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]، كما جعلهم أئمةَ المتَّقين وقدوةَ الصالحين على ما وصف اللهُ تعالى عبادَ الرحمن في قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، فكان الواجب سلوكَ سبيلهم والاقتداءَ بهم، بل العدولُ عن سبيلهم مظِنَّة الفتنة ومحطَّة المحنة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاق