مع بزوغ فجر الألفية الثالثة برزت تناقضات الرأسمالية الأمريكية الفائقة، ليعاني العالم في عام 2008 أزمة اقتصادية خانقة، ولتتبعها في عام 2011 انتفاضة العولمة، التي بدأت ببروز حزب الشاي من جديد في الولاياتالمتحدة، ومظاهرات محاربة التقشف في الدول الأوربية، ولتنتشر في منطقة الشرق الأوسط من تونس وحتى ليبيا طلبا للعمل وحياة إنسانية كريمة. وفي خضم هذه الأحداث العالمية المعقدة والمتشابكة، تطل علينا من جديد جماعات أيديولوجيات المعارضة المتطرفة، لتفسر انتفاضة العولمة “بصحوة دينية، لتحقيق جمهوريات طائفية، يتزعمها أصحاب العمائم السياسية.” وكأن هذه المعارضة المتطرفة لم تدرس تاريخ الصراعات الدينية والطائفية، ولم تتعرف على تحديات الألفية الثالثة في قريتنا الكونية الصغيرة، وكيفية التعامل مع تحدياتها بأنظمة حداثة عصرية، وبتعاون إقليمي وعالمي، وبقوانين عالمية متجانسة، وبتكنولوجيات وصناعات متناغمة مع الطبيعة ومواردها البشرية والطبيعية، لخلق سوق تجارية حرة منضبطة، توفر العمل لموارد بشرية مدربة وسائلة. بل حاولت هذه المعارضة المتطرفة أن تجر الشباب، من جديد، إلى فوضى انتفاضات أيديولوجية، بإغرائهم “كذبا” بمفاتح جمهوريات الجنة، بحورها العين، وولدانها المخلدون.وقد ناقش البروفيسور الأمريكي، والي نسر، الأستاذ بجامعة تفت، التطورات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، في كتابه، قوى الثورة، صعود طبقة وسطى إسلامية في الشرق الأوسط، وما الذي ستعنيه للعالم. فيعلق الكاتب بقوله: “ الشرق الأوسط ليس فقط منطقة للتطرف والعنف، بل أيضا موقع لاقتصاديات مكافحة ومزدهرة، منطقة تتصاعد فيها قوة طبقات جديدة، ومثقفي الإعمال الحرة، لتغير الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية. وتؤكد ذكرياتنا عن القوى الصاعدة، بأن الصعود في عالم العولمة الجديد لا يعتمد على القوة العسكرية، بل يحتاج لنجوم اقتصادية تقود التنمية في الدول التي من حولها. وليست إيران مثلا ساطعا لهذه النجوم حتى الآن، فاقتصادها المعزول ترتيبه 151 بين 160 دولة في العالم ... ولن تكون قوة إقليمية، إلا حينما تتحول لقوة اقتصادية بدل قوة ديكتاتورية دينية عسكرية، والذي لن يتحقق إلا بتناغم عملها مع جيرانها، ومع باقي دول العالم، وخاصة الولاياتالمتحدة، وعليها الاستفادة من تجربة دبي التي تحولت لأرض الأحلام في العالم الإسلامي، والتي يحب المسلمون أن يعيشوا فيها، بعد بلادهم، لجمعها بين الحرية الاجتماعية واحترام اللباقة الإسلامية.وعرض الكاتب حديث لتاجر مسلم زار دبي يقول فيه: “لو أردت أن تكون مسلما جيدا، أدعو الله أن تعيش في دبي، فالمساجد فاخرة، نظيفة جدا، ومكيفة، والصلاة هنا متعة، فتستطيع أن تعيش في فندق خمس نجوم وتصلي في مسجد خمس نجوم. فأحب هذا المكان لأنني أستطيع أن أتبضع، وأكل، وأتمتع بالفخامة، وأبقى مسلما جيدا أيضا”. فبقدر ما دبي مهمة كنقطة تقاطع للعالم، فهي مثل لشراكة رأسمالية بين القطاع العام والخاص، والذي يميزها ليس المنهجية الاستهلاكية، أو طفرة البناء، بل فكرة أنها دولة صديقة للرأسمالية، بينما تجمدت بعض دول المنطقة في حماية بلدانها من الرأسمالية، وحولت قطاعاتها الاقتصادية للقطاع العام، وكبلت حرية تجارتها بقوانين بيروقراطية بالية. ولم تنطلق الهند والصين وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية، إلا حينما تعاونت حكوماتها مع القطاع الخاص، وحررت أسواقها من قيودها البيروقراطية، وسمحت لتطوراتها التكنولوجية والتجارية. وقد بدأت دول المنطقة الاستفادة من تجربة دبي، وذلك بالمشاركة في اقتصاد العولمة الجديد، وستفشل جميع المحاولات التي تشكك باستدامة هذه التجربة، وبكونها مثلا للتنمية في العالم الإسلامي. فقد بدأ المسلمون محاولاتهم في المشاركة في الاقتصاد العالمي، وسيصبحون رأسماليين مجدين وطموحين، يهدفون للإبداع والازدهار. وتؤكد تجربة دبي بأن التحمس للإسلام لا يعني معارضة التنمية التجارية والاقتصادية، كما يجب ألا يسرق إنجازاتها انتقال أزمة الوول ستريت إليها، بل يجب أن يؤكد ذلك بأنها أصبحت جزءا حقيقيا من اقتصاد العولمة، بعد أن احتضنت الرأسمالية، وتأثرت بالعولمة. لقد احتضنت دبي رأسمال منطقة الشرق الأوسط، وزاد استثمار الرأسمال الإيراني فيها، والذي يعتقد الكاتب بأنه سيؤدي لتحرر التجار الإيرانيين من لهجة نظام حكمهم ضد الرأسمالية، بل قد يدفعوا بحكومتهم للمشاركة في هذه الرأسمالية، وربط الاقتصاد الإيراني بها، والذي سيتفاعل مع مصالح التجار الإيرانيين، ويؤدي تأثير هؤلاء التجار على قرارات حكومتهم. فقد آمن الشعب الإيراني، بعد الانتخابات الأخيرة، بان تنمية بلادهم الاجتماعية والاقتصادية تعتمد على رأسمالية مسئولة، تطور التجارة وتحمي استثمارات السوق، وتحسن التصنيع والخدمات، لتوفر الأعمال للمواطنين، فتطور اقتصادهم، وتضمن رعايتهم الصحية والتعليمية، وتؤمن تقاعدهم وتعطلهم، كما تحافظ على الاستقرار والسلم في المنطقة، وتفتح لتجارتهم سوقا، يتجاوز عدد مستهلكيها النصف مليار نسمة. ويعتقد الكاتب بأن المنطقة قد يئست من ثوريات الإيديولوجية السياسية، والتي لعبت دورا في تخلف مجتمعاتهم، وشغلتها بمحاربة التطرف والإرهاب. وعرض الكاتب تاريخ فشل العلمانية في منطقة الشرق الأوسط، بعد تجربة كمال أتاتورك في تركيا، ورضا شاه بهلوي في إيران، والتي تبعتها تجربة الانقلابات القومية والاشتراكية العربية، والتي انتهت بهزيمة حرب حزيران، والتي كانت سببها القرارات الفوقية والاعتماد على القطاع الحكومي، وسوء الإدارة والفساد، وفشل الطبقة البرجوازية في تنمية طبقة متوسطة من التجار والمهنيين، وبقاعدة اقتصادية مستقلة عن الدولة، التي هي أساسية لتطور الرأسمالية والديمقراطية. وبأن إصرار البعض على أهمية العلمانية في الحداثة، أدت لمجابهة خطيرة مع قوى الإسلام السياسي، فقد تناسى العلمانيون بأن الإسلام تحول خلال مائة سنة من ظهوره لدين عالمي، انتشر في إمبراطورية امتدت من جبال أطلس وحتى سهول الأندلس، وبعد 250 سنة أخرى، امتدت الحضارة الإسلامية من اسبانيا وشمال أفريقيا حتى الهند وجنوب شرق آسيا، ليزدهر الفن والهندسة المعمارية والرياضيات والعلوم والفلسفة والآداب. وقد استمرت الحضارة الإسلامية حتى عام 1876، حيث حسنت الإمبراطورية العثمانية فن الإدارة واللبرالية في المنطقة، كما طورت التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية. ومع الأسف، أدى تحالف تركيا مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، لتقسيم العالم العربي بعد الهزيمة، لتستمر مرحلة الاستعمار وحتى السبعينيات من القرن الماضي، ولتنام الحضارة الإسلامية قرنين من الزمن، كما نام التنين الصيني وأستيقظ في السبعينيات، ليصبح الاقتصاد العالمي الأول في عام 2015، ويعتقد الكاتب بأن النهضة الإسلامية الحديثة، ستبدأ نشاط حيويتها من تركيا، ولتنتشر في العالم الإسلامي من جديد. وقد علق مراد مركان، النائب التركي بحزب العدالة، في مؤتمر الحركة العالمية للديمقراطية، في عام 2006، على نقاش تناغم الشريعة مع الديمقراطية، بقوله: “هنا في تركيا، نحن محظوظون لعدم وجود نقاش كهذا، فقد تجاوزنا الحوار حول ما سنعمله بالشريعة والدولة الإسلامية، فلدينا ديمقراطية ونحن في الحكومة، والناخبون يقيموننا بما ننجزه اقتصاديا”. ليؤكد هذا النائب بأن الشعب التركي تجاوز الأيديولوجيات السياسية، ويقيم حركاته السياسية وقياداتها بما تحققه عمليا للمواطن من حاجياته اليومية، وما تخلقه من فرص اقتصادية، ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للوطن، لا بالتزمت لصراعات إيديولوجية سياسية، ولا بنزاعات طائفية، ولا باستغلال الدين في السياسة.ويعلق البروفيسور ناسر على توافق الإسلام والرأسمالية بقوله: “تصوت الطبقة الوسطى في المجتمعات الإسلامية للتناغم بين الإسلام والرأسمالية، وهي الطريقة الوحيدة للتقدم نحو التوافق بين الإسلام والديمقراطية. ومن سخرية القدر أن الديمقراطية ليست جديدة على الشرق الأوسط، مع أن ممارستها لم ترسخ في جذوره الوطنية. ومع أن تركيا مرت بتجارب ديكتاتورية، ولكن منذ عام 1980 قوت الديمقراطية، بالرغم من بعض تجاوزات العسكر. وتختلف تركيا عن باقي الشرق الأوسط، لأن ديمقراطيتها اعتمدت على قاعدة متينة لثورة اقتصادية حقيقية. وقد اهتم الغرب بالديمقراطية في المنطقة، واعتقد بأنها سترسخ عفويا بانتخابات نزيهة عادلة، وتناسوا بأن القيم الديمقراطية، من حق التصويت، وحرية التعبير، وحرية العبادة، واحترام القانون، لم ترسخ جذورها إلا بالمؤسسات الديمقراطية. ويحتاج نجاح الديمقراطية، لتغيرات جوهرية في المجتمع والقانون، والعلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويؤكد التاريخ الغربي، بأن الإصلاحات الديمقراطية عقبت تطور الحركة التجارية في أوروبا.”ويعتقد الكاتب بأن التشريعات التجارية، التي ناضلت البرجوازية الأوربية لتحقيقها، نجحت في دمقرطة الحكم، وإضعاف تأثير رجال الكنيسة، وطورت طبقة تجارية بذهنية انتقادية، والتي كانت، في رأيه، السبب وراء نهضة الغرب. فمثلا لم تتطور سكوتلاندا، التي كانت أكثر جزءا متخلفا في أوروبا، بحركة الإصلاح البروتستانتية والحداثة، إلا حينما توسعت التجارة وبدأت الثورة الصناعية، التي خلقت طبقة مهنية مثقفة، كآدم سميث وديفيد هيوم. وقد ألهمت هذه الطبقة المثقفة صعود الطبقة التجارية، التي احتاجت لذهنية مهيأة ومحفزة، لنجاح تجارتها وإصلاحاتها الاجتماعية. كما نجحت التغيرات الديمقراطية في آسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، بصعود الطبقات التجارية في مجتمعاتها، والتي حققت نشاطاتهم التجارية معظم التنمية في تلك المناطق. فمهني ومبدعي العمل الحر، والتجار الطموحين، والمتمكنين ماديا، هم الذين أسسوا نموذجا اقتصاديا ناجحا، لتصبح قيم العولمة، المرتبطة بتحالف العالم بقيم السلام، والأمن والحرية، وحقوق الإنسان والحداثة، وتحمل التنوع الديني، ونشر الديمقراطية، لتصبح فاعلة، حينما تخدم مصالح المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وتصلح سلطة الحكم. ويعتقد الكاتب بأن: “العالم الإسلامي لم يحتضن هذه القيم حتى الآن، ليس لطبيعة الإسلام المتعصبة، بل بسبب أن الطبقة التجارية التي تنشر هذه القيم صغيرة”. وسيؤدي مساعدة نمو وانتشار هذه الطبقة التجارية لتوسع قيم العولمة في جذور القيم الإسلامية، لتهيئ الطريق لنهضة الشرق الأوسط، وازدهاره، وسعادة شعوبه ولنا لقاء.