إنّ معرفة شمائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنوعيها الخُلُقيّة والخَلقيّة لها فوائد جمّة عظيمة، وذلك من وجوه: الوجه الأوّل: أنّها من تمام معرفة رسول الله صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وحقّ على كلّ مسلم أن يعرف نبيّه، لأنّ الإيمان بالشّيء على قدر المعرفة به، فكثير من النّاس يؤمن بوجود الشّيء، ولكنّ اليقين لا يسكن إلاّ قلب من رآه وعاينه، وتلك هي مراتب العلم: اليقين، وحقّ اليقين، وعين اليقين. لذلك كان أكثر النّاس يقينا أعرفهم به صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا عندما اختار من كلّ قوم رجلا منهم يعرفون حسبه ونسبه وسيرته وشمائله. والمسلم إذا درس شمائله صلّى الله عليه وسلّم يجد نفسه وكأنّه عاينه وعايشه فيزداد يقينه بصدق وكمال وجلال نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. الوجه الثّاني: أنّ معرفة الشّمائل المحمّديّة تزيد المسلم حبّا لنبيّه صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وحبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والشّوق إلى العيش معه وتقديمه على كلّ شيء من أصول الإيمان، ففي الصّحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللهُ عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ). والمتمعّن في سيرته وشمائله، ليخرج منها بأكبر نصيب من هذا الحبّ تجاه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. الوجه الثّالث: من ثمرات هذا الحبّ ودلائله هو الاتّباع والتّأسّي، وهذا ما بلغه الأوّلون، حتّى نالوا شهادة لا تزال تتلى على مرّ السّنين:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فكانوا -وإن مشوا على الأرض- على اتّصال دام بالله والملأ الأعلى، فهذا يهتزّ عرش الرّحمن من أجله، وآخر تشيّع الملائكة جنازته، وثالث تغسله الملائكة، ورابع تسمع ترنّمه بالتّلاوة، وخامس يقرئه ربّه السّلام، وسادس يسلّم عليه الملك، وجيش يقاتل معه مدد من السّماء الثّالثة.. ولقد جُبِلت النّفوس على حبّ الاقتداء، والزجاجة إن لم تملأها بالماء ملئت بالهواء، لذلك كانت شمائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تجعل المؤمن لا يرغب إلاّ في اتّباع منهجه في الحياة. فلمّا أراد الله ذلك، هيّأه لذلك، فكان كاملا كمال الشّريعة، فيجد فيه الحاكم قدوته في سياسة دولته، والأب يجد فيه قدوته في تربية أولاده، والزّوج تعامله مع زوجته، والمعلّم براعة الطريقة في تعليمه، والتّلميذ حسن تأدّبه مع شيخه، والزّاهد يجد صدق زهده، والتّاجر صدق تعامله، والعامل أمانة عمله، والغنيّ قمّة في شكر ربّه، والفقير غاية في صبره، واليتيم صورة لتوكّله على ربّه، والدّاعي نبراسا لدعوته .. فنبيّ مثل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم جدير على كلّ مسلم أن لا تلفظ أنفاسه ولا تكون حركاته إلاّ بهديه. الوجه الرّابع: تثبيت المؤمنين وردّ شبه المعاندين أمّا الأمر الأوّل: وهو تثبيت المؤمنين: فإنّ تلك الشّمائل وتلك الصّفات والنّعوت بمثابة أشعّة الشّمس الّتي تنير دروب الصّالحين، وتضيء سبيل المتّقين. فأيّ عبارة تحيط ببعض نواحي ذلك الكمال ؟! وأيّ كلمة تتّسع لأقطار ذلك الجلال ؟ عظمة شملت كلّ قطر، وأحاطت بكلّ عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدّهر ؟!. رأيناه في التّواضع كان سيّد المتواضعين. رأيناه في الجود كان في قمّة الباذلين. رأيناه في معاملته ودعوته أرحب النّاس صدرًا، وأوسعهم صبرا، لا يزيده جهل الجاهلين إلاّ حلما، ولا كيد الكائدين إلاّ كرما، ينادي أسراه في كرم وإباء: “اذهبوا فأنتم الطلقاء “. رأيناه يُخالط المسكين والفقير، وأرحم النّاس بالصبيّ والعجوز وذي الشّيبة الكبير. رأيناه أرفق الخلق بالخلق، وأشدّهم ثباتا على الحقّ، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنّما يُفقأ في وجهه حبّ الرّمان من شدّة الغضب. رأيناه أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقّى النّاس بثبات وصبر. رأيناه أعفّ النّاس لسانًا وأوضحهم بيانًا. رأيناه أعدل النّاس في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة. رأيناه أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله. رأيناه يدلّ النّاس على الجادّة، وأزهد النّاس في المادّة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يأكل ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقودا، ينام على الحصير والجلد المحشوّ باللّيف..... وأمّا الأمر الثّاني: فإنّ معرفة هذه الشّمائل جعلت أقطاب النّصرانيّة المنصفين قد خرّوا لله ساجدين، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالفضل معترِفِين، نشر أقوال الغربيّين الّذين تعترف لهم دور الفكر الغربيّة، والمؤسّسات العلميّة والاجتماعيّة بعلوّ الكعب في أبحاثهم، وتشهد بسعة اطّلاعهم، من باب قول الله تعالى:{وشهد شاهد من أهلها. - غدا اسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم أشهر الأسماء طُرًّا، وأكثرها ترداداً على الشفاه وفي أعماق القلوب. وحسبه شهرة وترداداً أن ملايين المؤمنين في العالم يؤدون، كل يوم أكثر من مرة، شهادة مقرونة باسم الله وباسمه. ومن يُنعِم التفكير في سيرة هذا الرّجل صلّى الله عليه وسلّم يرَ نفسه منساقاً إلى الإقرار بأن ما حققه وقام به يكاد يكون من دنيا غير التي يعرفها البشر. - هنا عظمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم..لقد استطاع خلال تلك الحِقْبَة القصيرة من الزمن، أن يحدث ثورة خلقية وروحية واجتماعية، لم يستطعها أحد في التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة. -لا ليس بين الرسل واحد كمحمّد صلّى الله عليه وسلّم عاش رسالته عميقاً وصُعِداً، ذائب الكيان، عاصف البيان، شديد الإيمان. - لكأنّي بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم آلى على نفسه أن يترك للمؤمنين ثروة روحية وأخلاقية، ينفقون منها فلا تنضب ولا تشح، لأنها بحجم روحه، وهل روح النبيّ تنضب أو تشحّ ؟. - إنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب، فإذا بهذا الأميّ يهدي الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية، منذ كانت الإنسانية، ذاك كان الكتاب الذي أنزله الله على رسوله. - ليس في القرآن كلّه ذكر لمعجزة أو لأعجوبة صنعها النبيّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، فحسبه أنّ المعجزة الكبرى كانت بوساطته. حسبه أن الله اختاره من دون لبشر لينزل عليهم تلك الثروة التي لم يروِ التاريخ أن ثروة بحجمها جاءت على لسان رجل واحد. حسبه أن يكون قد نثر تلك الثروة بحرفيتها على الناس، فأفادوا منها جميعهم. وستظل مدى الدهر ينبوعاً يرِدُه العِطاش إلى الحقيقة والجِياع إلى ملكوت الله. - إنّ أولى الآيات البيّنات كانت تلك الدعوة الرائعة إلى المعرفة، إلى العلم عبر القراءة..{اقرأ}.. وقول الله هذا لم يكن لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فحسب، بل لجميع الناس، ليوضّح منذ الخطوة الأولى، بل منذ الكلمة الأولى، أن الإسلام جاء يمحو الجهل، وينشر العلم والمعرفة. - ذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعدّ شعباً لفتح الدنيا من أجل الله.. ذلك الأمي اليتيم الفقير الذي خاطب الأباطرة والملوك والأمراء من ندّ إلى ندّ، بل كان له عليهم سلطان.. ذلك الملهم الذي كان همّه أن يعيد الصلة بين الأرض والسماء. ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروساً في آداب المجتمع، وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام! - هذا الرجل الذي ما عرف الهدوء ولا الراحة ولا الاستقرار، استطاع، وسط ذلك الخضّم الهائج، أن يرسي قواعد دولة، وأن يشرّع قوانين، ويسن أنظمة، ويجود بالتفاسير والاجتهادات، ولم ينسّ أنه أب وجدٌّ لأولاد وأحفاد فلم يحرمهم عطفه وحنانه. فكان بشخصيّته الفذّة، الغنيّة بالقيم والمعطيات والمؤهّلات، المتعددة الأبعاد والجوانب الفريدة بما أسبغ الله عليها من نعم وصفات، وبما حباها من إمكانات، كان بذلك كله عالماً قائماً بنفسه. - “لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رسولاً وحسب، يهدي الناس إلى الإيمان، إنما كان زعيماً وقائد شعب، فعزم على أن يجعل من ذلك الشعب خير أمة أخرجت للنّاس، وكان له ما أراد. وفّقنا المولى تبارك وتعالى لحبّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم واتّباع سنّته وإحياء شريعته إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.