في الجزء الأوّل من محاضرة ألقاها مؤخّرا بمعهد العالم العربي بباريس، أكّد الدكتور محمد العربي ولد خليفة، الباحث الجامعي ورئيس المجلس الأعلى للغة العربية، أنّ مراكز العلم والعمران التي أنشأها المسلمون أصبحت منارات للإشعاع في إطار حضارة واحدة بعدّة ألوان، فالإسلام عقيدة مُوحّدة لبني الإنسان وداعية للتكافل والتعاون على الخير، وهو أيضا حضارة ديمقراطية لا تُلغي الجيّد والمفيد من تراث الأمم الأخرى، ولا تستأصل الهويات الخاصة، ولا تحتقر الألسُن المتداولة بين شعوبها.. وحدة تُؤاخي بين الأبيض والأسود والأصفر، والفقير والغني، والقوي بماله وجاهه والضعيف لقلّة ذات يده واستصغار أهله وعشيرته. أولا: تمهيد 1- لقد ساد الاعتقاد لدى حكماء من رجال الدين والعلم والسياسة، بعد حربين عالميتين في أقل من ثلث قرن خلفتا الكثير من الدمار والضحايا والآلام، بأن عالمنا مقبل على مرحلة من النضج والرشاد، تحث على الإقبال على الحوار المتكافئ بين كل الأديان والثقافات، واحترام الاختلاف والتنوع واعتباره مصدر إثراء للتراث الإنساني المشترك. جاءت بعد ذلك سلسلة من المواثيق التي قامت عليها الأممالمتحدة، وأصبحت قاعدة مشتركة لما يسمى الشرعية الأممية والمصدر الذي تحتكم إليه المجموعة الدولية فيما يطرأ بينها من نزاعات، ومجمل تلك المواثيق إما تؤيد أو تستلهم مبادئها الكبرى مما دعت إليه كل الشرائع الدينية، من رحمة وتسامح وتمسك بمبادئ الحق والعدل والسلام. وقد لاحت في الأفق بشائر الأمل بعد أن تمت تصفية الاستعمار من أغلب بلدان الجنوب في الثلث الأخير من القرن الماضي، وظهور مبادرات للحوار شمال-جنوب لتضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء في أشكال من التعاون والترابط Interdépendance) ) المفيد لجميع الأطراف، كما يشير التقدم العلمي والتكنولوجي بإمكانية التغلب على العدو الحقيقي لكل البشرية، ألا وهو الثلاثي المتمثل في: الجهل، والفقر، والمرض. 2- ينتمي مسعانا إلى قناعة أولى وهي أن الإنسان أيا كان دينه أو جنسه ليس شريرا بطبعه كما رأى بعض المفكرين مثل بلوتوس Plaute)) (254-184 ق م) Homo Homini Lupus) ) وليس ذئبا يمشي على رجلين كما وصفه "توماس هوبز" ( T.Hobbes) (1679-1588)، الأقرب إلى الحقيقة هو أن الانسان يولد باستعدادات فطرية تؤهله للتكيف والتثاقف والتحصيل، فإذا تحوّل إلى شرير فالعيب في المؤسسات والأنظمة التي تسوسه وتشرف على تربيته وتوجيهه. 3- ينتج عن القناعة السّابقة أن الاعتزاز بالانتماء إلى شعب ووطن ومجال حضاري، لا يتنافى مع التعاطف مع الإنسانية كلها وحبّ بني جنسنا من البشر، فلا وجود لإنسان مجرّد بلا لون ولا طعم ولا رائحة أي شخص بلا وطن ولا ثقافة مشتركة أو فرعية، في عصر اتساع شبكات الاتصال الداخلي والخارجي intranet-extranet) ) تبدو الانتماءات السابقة أشبه بحلقات دائرية متداخلة يتحرك الشخص فيها عدة مّرات في اليوم الواحد، ويتأثر بما يحدث في عقر داره، مثلما يتأثر بما يحدث بعيدا عنه بآلاف الأميال. 4- إن الموروث الحضاري يتطلب في كل حقبة من التاريخ مزيدا من التجاوز في الأشكال والمضامين، في الموضوع والمنهج، فلكل جيل زمنه التاريخي والحضاري، ولكي يترك بصماته ويُوقّع حضوره في سجلاته، فإنه لا يكفي أن يتعيّش على التركة التي خّلفها آباؤه وأجداده، أو يكتفي بمدح أو ذمّ ما يحدث خارج حدود وطنه. ثانيا: الإسلام، حضارة لا عرقية تحترم الخصوصيات الثقافية والألسن المحلية بدأت حضارة الإسلام باكتشاف الذات التي تكونت خلال الخمسين سنة الأولى من التاريخ الهجري( - أوائل القرن الثامن ميلادي ) - تحت لواء حضارة مجدّدة أسست أمة تؤمن بإله واحد، وتحتكم إلى كتاب واحد، فيه أركان عقيدتها والأسس العامة للعلاقات بين الدولة والمجتمع، وبين الأفراد والجماعات، فيه طهارة للروح وتنويه بالعقل يرفع عنه القيود، ويدعوه لفهم الكون وتسخير ما فيه لصالح الإنسان، الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وجعله خليفته في الأرض، أي حمّله مسؤولية التعمير بأخلقيات تلزمه بالحفاظ على البيئة بما فيها من نبات وحيوان. في فترة قصيرة جدا، مقارنة بنشأة أديان وحضارات أخرى، توجّه المسلمون إلى مخاطبة العالم بأسره، لتبليغ رسالة التوحيد المحمدية، وفق رؤية للكون والإنسان وضع القرآن الكريم قواعدها العامة، في وقت كان فيه الإسلام الناشئ مطوقا بالقوتين الأعظم في ذلك الزمان، وهما إمبراطوريتا فارس وبيزنطة، أي ما يشبه إمبراطوريّة السوفيات وإمبراطوريّة العم سام في العصر الحديث. لم يكن المسلمون في العقود الأولى للهجرة أكثر عددا وعدة، من القوى الكبرى المجاورة لهم، لقد كانت قوتهم أساسا روحية عززت الإرادة، ومنها بدأ التنظيم والإستراتيجية، تكمن تلك القوّة الروحية في 114 سورة من آي الذكر الحكيم وسيرة خاتم الأنبياء (ص) الذي أكد القرآن أنه بشر يُوحى إليه، ليس من جنس الملائكة ولا يرغب في أبّهة السلاطين : (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟) أي لا يصحبه موكب ولا يُحيط به حراس، ولكنه لم يزهد في الدنيا، ونهى عن الإفراط في الرهبنة والتفريط فيما أجازه الشرع والعقل. في أقل من قرن واحد بعد الهجرة النبويّة، تمّ وضع الأسس لحضارة متقدمة على ما سبقها وما عاصرها. إشترك في بناء تلك الحضارة أقوام من أجناس ولغات وثقافات متباينة يمثلون تقريبا معظم شعوب القارات المعروفة في ذلك الوقت، لم تمنع تواصلها المسافات وهي تعدّ بآلاف الأميال من أقاصي الصين والهند إلى جنوب أوربا ووسطها وشمال وغرب وشرق إفريقيا، حيث نشأت مراكز كثيرة للعلم والعمران. أصبحت تلك المراكز بدورها، منارات للإشعاع في إطار حضارة واحدة بعدة ألوان، فالإسلام عقيدة مُوحّدة لبني الإنسان وداعية للتكافل والتعاون على الخير، وهو أيضا حضارة ديمقراطية لا تُلغي الجيد والمفيد من تراث الأمم الأخرى، ولا تستأصل الهويات الخاصة، ولا تحتقر الألسُن المتداولة بين شعوبها. وحدة تُؤاخي بين الأبيض والأسود والأصفر، والفقير والغني، والقوي بماله وجاهه والضعيف لقلّة ذات يده واستصغار أهله وعشيرته. هذه مبادئ الإسلام التي جعلت من بين المُقربين لرسول الله رجل حبشي وآخر رومي وثالث فارسي، لا يقلون شرفا ومكانة عن بني هاشم وقريش المسيطرة على مكة وتجارتها، أما ما حدث بعد ذلك من "شعوبية" وتفاخر بآل هاشم وعدنان وقحطان، فهو من عمل الأسر الحاكمة، وخدمة لسياسات خاصة بها بواسطة الدين وصلت أحيانا إلى تأويل تحكُّمي لآي الذكر الحكيم، ونسبة أحاديث مكذوبة إلى الرسول عليه أزكى الصلاة والتسليم، وهو ما ينبغي الاحتراس منه أي عدم خلطه بالمدلول اللاشعوبي واللاتحزّبي لآي الذكر الحكيم وأحاديث رسول الله. التعليم حق للجميع وطلب العلم فريضة في الإسلام لقد ظهر الإسلام في مجتمع يوصف بالجاهلي، وهذا الوصف لا يعني انعدام أيّة ثقافة شفهية أو مكتوبة، فقد كشفت الأبحاث الأثرية (الأركيولوجية) عن معالم تثبت أن شبه الجزيرة العربية لم تكن منطقة معزولة عن جوارها من بلاد الشام وما بين النهرين (العراق) والقرن الإفريقي، وما هو أبعد من ذلك، وقد قامت في تلك البلاد حضارات وإمبراطوريات لعدة قرون قبل الإسلام. وبدون العودة إلى قواميس الصحاح والمحيط، فإن الجاهلية تعني أيضا في هذا السياق الجهالة (أي السطوة)، كما جاء في قول الشاعر "فنجهل فوق جهل الجاهلينا" في مجتمع مكة الماركنتيلي. نحن لا نزعم لأنفسنا الكفاءة في تفسير آي الذكر الحكيم والاختصاص في تأويل منطوق كلام الله ومدلوله، وكيف يدّعي أحد القدرة الكاملة على ذلك ورسول الله (ص) يقول "ًًٍٍٍٍٍوما أُوتيتُ من العلم إلا قليلا"؟ بناء على التوضيح السابق، فإننا لا نرى تناقضا بين ما قلناه عن مكة السوق التجاري الجهوي الكبير لشبه الجزيرة، وبين ما جاء في الآية الكريمة "هو الذي بعثك في الأميين رسولاً"، فقد يكون المقصود بالأمية هنا الفراغ الروحي والفساد الأخلاقي وطغيان المادية الوثنية، وقد يكون التعليم مقتصرا على حلقة ضيقة من الأعيان ويحرم منه الفقراء والعبيد. يؤيد الأطروحة السابقة عن تداول القراءة والكتابة في مجتمع مكة قبل الإسلام، أن النبي (ص) طبق أول آية نزلت عليه وهو بغار حراء: "إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق". فقد أمر بتحرير أي أسير إذا عّلم القراءة لعشرة من المسلمين، ونحن نتساءل من أين جاء هؤلاء الأسرى من المشركين؟ أليسوا من قبائل المنطقة أي من نجد والحجاز ومن أين جاءت المعلقات السبع؟ وهي تعلق تكريما لقائليها وليقرأها الناس، على الرغم من شيوع الاعتماد على الحفظ والذاكرة. إن اعتبار رفع الأمية وتعليم أوائل المعتنقين للإسلام وأغلبهم من الفقراء المهمشين والعبيد فدية، وليس المال والعقار، في مجتمع مكّة بالذات الذي تغلب عليه العلاقات المادية ويديره الأعيان الأثرياء أصحاب رؤوس الأموال الضخمة التي تُستثمر في المبادلات مع غساسنة الشام البيزنطية والحيرة بالعراق الموالية لإيوان كسرى، إن تلك المبادرة النبوية قد أعطت لحضارة الإسلام منظورها الإستراتيجي البعيد المدى، ألا وهو التعلم والتعليم انطلاقا من المحيط القريب (الفدية هي التعليم وليس المال) والبعيد (أطلبوا العلم ولو في الصين) أليس ذلك أول مقاربة لديمقراطية التعليم، وتطبيق مبكّر جدا لمبدأ الحقّ في التعليم للجميع؟ لقد انتظرت البشرية إلى القرن العشرين لإدراك عظمة تلك المبادرة في ذلك الزمن البعيد، هل احتفظ المسلمون المتأخرون بوصايا رسولهم، أم تناسوها، فساد الجهل بين عامتهم، واكتفت خاصتهم بالأكل دون هضم من مائدة السلف، وتقديس حروفهم دون أن يدركوا أن للعلم حقا بداية، ولكنه محيط بلا نهاية؟ ولم تتمكن بوارق النهضة والصحوة التي انطلقت من بداية القرن الماضي من تحقيق إحياء متواصل للعالم العربي والإسلامي يصل به إلى النقطة التي وصلها الغرب المسيحي والشرق البوذي (الهند والصين واليابان ونمورها السبعة) اليوم. - لذلك أسباب لا علاقة لها بالعقيدة الإسلامية - عبادات ومعاملات، أي روحانية ومنهجية في الحياة تقوم على الحرية والعدالة والتقدم والسعي للخير المطلق لكل بني انسان، من تلك الأسباب ما يرجع إلى الغرب نفسه وما سجل الكولونيالية والرق بمئات الآلاف وعروض "السيرك البشري " Zoos humains) ) في لندن وباريس وبروكسل، ليس كل ذلك ببعيد. وهناك أيضا ما يقع على عاتق المسلمين وليس على الإسلام كما هو الحال بالنسبة للمسيحية السمحاء، إن هتلر وموسوليني وستالين وفرانكو وسالازار وكثيرا آخرين من قادة أمريكا وجنيرالات إسرائيل، ينتسبون إما إلى المذاهب الثلاثة الكبرى في المسيحية أو إلى اليهودية التي أوحى الله فيها إلى موسى "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (من الآية 31، سورة المائدة). في بلاد الإسلام لا يعادي الناس اليهود والمسيحيين لدينهم، بل لأفعال أولئك الذين يسيئون إلى المسيحيّة وإلى وصايا الألواح الحقيقية في الديانة اليهودية، وكلّها تتفق مع الإسلام في الدعوة للتسامح ورفض الظلم والعدوان، وأيا كانت الحجج حول أرض الميعاد فإننا نعرف جميعا ما حلّ بشعب فلسطين من قتل وتشريد على مدى ستين عاما. حضارة الإسلام بين عرفان ونكران - إن ما بقي من التراث حتى القرن الثامن الهجري (15م) يؤكد أن الحضارة العربية الإسلامية قد أضافت الكثير إلى التراث الإنساني، وأن المفكرين والمبدعين فيها لم يكونوا أبدا مجرّد تراجمة وحراس أبواب مكتبات أثينا وحرّان والإسكندرية ورودس وملطيه، لقد ظلم العرب والمسلمون أنفسهم بالغفلة والتناحر فظلمهم غيرهم بالاستضعاف والنّكران. إلى جانب الذين ينتقدون أو ينكرون مساهمة الحضارة الإسلامية في ترشيد الإنسانية متأثرين في ذلك بما يسميه المفكر اللبناني ج. قرم G.Corm) ) الفوضى العالمية الجديدة (La découverte1993) le nouveau désordre mondial وعودة الذاكرة التاريخية ورواسب الحروب الصليبية والحقبة الكولونيالية، إلى جانب أولئك هناك من أنصف حضارة الإسلام ومساهمتها في ترقية الوعي بإنسانية الإنسان وعنايتها بالتوازن بين ما هو روحاني يرقى بالإنسان عن حيوانيته وفردانيته الأنانية ويدفعه إلى الحب الصافي، كما نجد ذلك لدى العارف الروحاني الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي: لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لا سلام ودير رهبان وبيت أوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآ أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني وكذلك التوازن مع ما هو من المطالب الضرورية للحياة ويقبلها الشرع الذي يتطابق مع الحس السليم، فالإسلام خلاصة متقدّمة لكل الشرائع السماوية السابقة في نصوصها الأصلية، حيث تخص آيات القرآن الكريم موسى وعيسى وأمه العذراء عليهم السلام بالتمجيد وتعتبر الإسلام إكمالا وارتقاء بالديانات التي سبقته في الأسرة الإبراهيمية، ولذلك نجد أكثر العائلات تدينا في الجزائر تسمى أبناءها عيسى وموسى بدون حرج ولا نجد مطلقا اسم محمد وأحمد وأبي بكر في العالم المسيحي. ثالثا: هل تصنع كل ثقافة مناهجها الفكرية؟ ليس ما سبق من باب الاستنتاج أو التأويل فقد جاء في النص القرآني ما يلي: "يا أيها الذين آمنوا لا تكونو كالذين آذوا موسى فبرّأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها" (الآية 69، الأحزاب) "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين وكهلا ومن الصالحين " (الأية 44 - 45 - آل عمران ) - تكفي الآيات السابقة للرّد على المغرّر بهم مثل سلمان رشدي في روايته بعنوان "الآيات الشيطانية" The Satanic Verses)) وآخرين باحثين عن الشهرة الاستعراضية مثل تسرين البنغلاديشية وفلاشي الإيطالية، التي تزعم أن الإسلام يدعو إلى سفك الدماء وأن وضعية السجود في الصلاة تحقير للإنسان، فضلا عن الهولندي ورسومه المشينة للرسول (ص)، إنها كلها بحث عن الشهرة الإعلامية والفرجهShow-Bis)) في عالم إسلامي يظهر للآخرين غارقا في تناقضاته وتبعياته الطوعية وفي وضعية المفعول به بالسكون والكسرة. نرجع في هذه المقارنة إلى رأي أحد العلماء المعاصرين وهو الأستاذ ج. م لوبلان J.M. Leblond Le Monde Diplomatique Avril 2006) ) يقول: أعطت الحضارة العربيّة الإسلاميّة بعدا علميا للثقافة، فهي لم تقتصر على نقل العلوم العتيقة اليونانية والهندية، بداية من القرن الثامن ميلادي، بل ساهمت تلك الحضارة في ازدهار كبير للعديد من التخصّصات العلميّة وكُتبت كلّ العلوم الجديدة مثل الرياضيات والبصريات والفلك والجغرافيا والطب باللّغة العربيّة، من سمرقند إلى سرقسطة. وتفوّق رياضيون مثل الخوارزمي في القرن الثامن والشاعر الكبير عمر الخيام في القرن الحادي عشر وفيزيائيون مثل ابن الهيثم في القرنين العاشر والحادي عشر في الفيزياء والبصريات على من تلاهم من الأوربيين لمدة طويلة، ولكن على الرغم من التفوق الذي سجلوه فقد أحاطت بعد ذلك بالعالم العربي الإسلامي ظروف إيديولوجية وسياسية مختلفة تماما عما عرفه العالم الأوربي منذ القرن 14. هل تصنع كل الثقافات أدواتها الفكرية؟ وهل كانت المعرفة وراء كل إمبراطورية؟ إذا رجعنا إلى مدونات التاريخ نجد أنفسنا أمام مفارقة مؤداها: أن التلازم بين النهضة والتقدم العلمي ليس حالة ثابتة ومطرّدة في كل الإمبراطوريات ونترك للأستاذ ج. م لوبلان الإجابة التي نقتبسها من دراسته عن عالمية العلم l'Universalité de la science . "لقد وُجدت حضارات قويّة لم تتميز بأيّة نشاطات علمية أو تطبيقات تقنية هامة، ولم يمنعها ذلك من الازدهار وبسط نفوذها الإمبراطوري الكبير، وتقدم لنا روما الدليل على ذلك، فإذا كان بالإمكان أن نذكر عددا كبيرا جدا من العلماء الإغريق مثل فيتاغورس وإقليدس وطاليس وأرخميدس وآخرين، فإنه من الصعب العثور على أسماء رومانية قدمت اكتشافات علمية تذكر، هناك الفيزيائي بلين Pline) ) والمعماري فيتروف Vitrov) ) والخبير الزراعي كولومال Columelle)) ، ماذا بعد؟ ليس الكثير! ". لقد أخذ الرومان من الإغريق بعد أن هزموهم عسكريا فاستعانوا بعلمهم وفلسفتهم وأخذوا عنهم فنون النّحت والعمارة، إلا أنهم فشلوا في المحافظة عليها وتطويرها، وهو ما لم يمنعهم على أيّ حال من فرض سيادتهم على أجزاء كبيرة من أوربا وحوض المتوسط! "، وفرضوا ما يعرف بالهيمنة الرومانية Paxa-Romana) ) على أجزاء كبيرة من العالم القديم. لقد أضاف العلماء العرب والمسلمون تراثا هاما إلى علم "الأوائل" وفنونهم وآدابهم، إن المعرفة التي أنتجها العرب والمسلمون في تلك الحقبة من التاريخ وما توصلوا إليه في مجال علوم البرهان ومجال العرفان (المعرفة الصوفية) هو حلقة هامة في التراكم الحضاري الذي أنتجته الإنسانية وهو اليوم جزء من تاريخ العلم والمعرفة وليس العلم كما هو عليه اليوم.