الكشف يطلق ويراد به - كما يقول ابن تيمية -: (ما يلقى في النفس عند تجريدها مِن العوارض الشهوانية، وإقبالها بالقلوب على المطلوب) ويعرفه ابن القيم بقوله: (المكاشفة الصحيحة علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد، ويطلعه على أمور تخفى على غيره..). وفي تعريفه للفراسة يقول الشريف الجرجاني: (الفراسة في اللغة التثبت والنظر، وفي اصطلاح أهل الحقيقة هي مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب). أما عن الطريقة الموصلة للكشف فهي كما يقول أبو حامد الغزالي: قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}، فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر وهو الفوز بلقاء الله تعالى. ما هو الكشف؟ مصطلح الكشف أكثر ما يشيع في أوساط التدين الصوفي، فهو يحتل مساحة واسعة من اهتمام السالكين والعابدين على طريقة المتصوفة التي تلتزم نسقاً في السلوك، يلتزم فيه المريد بالاشتغال بجملة من الأوراد والأذكار والأعمال يحددها له شيخه في الطريقة، ولا ينتقل منها لغيرها إلا بإذن الشيخ وتوجيهاته المباشرة. في التدين الصوفي السائد تغالب المريدين حالة يتطلعون معها في تشوف دائم، إلى وقوع الكشف لهم، فالأذكار والأوراد ما هي إلا وسائل للوصول إلى الكشف الذي يتطلع إليه القوم، ومن حُرم منه فهو المحروم، ومن ناله فقد نال الشرف العظيم. في حوار لي مع أحد الأكارم، من أرباب تلك التصورات والرؤى، أبدى كثيرا من ألمه وتحسره، لأنه ما زال بعد ما يزيد على عقدين من الزمن من ارتياده لطريق السلوك والعبادة والذكر، محروما من تلك الكرامات والفتوحات، ولم يرَ شيئا من هاتيك الكشوفات، قلت له: يا أخي! ألست ملازماً لطريق العبادة، مجتهداً في أداء الفروض والنوافل، محافظاً على الأذكار والأوراد؟ أجابني: بلى. قلت: أليس ذلك من أعظم النعم على العبد؟ أوليس لزوم الاستقامة من أعظم أنواع الكرامة؟ فلماذا هذا الربط بين العبادة وآثارها وثمارها وبين الكشوفات وخوارق العادات؟ في مجتمعات المتصوفة وأوساطهم، يتداول القوم قصصا وحكايات غاية في الغرابة، فثمة وسيلة لانتقال المعلومات بينهم ومكاشفة أحوال الآخرين عبر الكشف، حدثني أحد السالكين ممن لازم طريقة صوفية لفترة من حياته، أنه ذات ليلة وقع له أنه اجتهد في العبادة والذكر اجتهادا كبيرا، فأراد أن يستريح لبعض الوقت، فبينما هو مستلق مع اشتغاله بالذكر إذا بشيخه ينتصب أمامه بجسمه ولحمه وعظمه (والمسافة بينه وبين شيخه تزيد على مئة وخمسين كيلو) فسلم عليه الشيخ، وربت على كتفه، وقال له: يا بني يكفيك هذا الجهد الطيب ولتخلد إلى الراحة، وفي اليوم التالي لتلك الواقعة جاءه من يخبره من إخوانه في الطريقة بأنه على علم بما حدث له مع الشيخ ليلة أمس فليثبت وليكتم أمره. لا يخفى أن عقائد الإسلام وحقائقه الإيمانية، حينما يشوبها انحراف في الفهم والتصور، فإنه ينتج عن ذلك خلل وتجاوز في العمل والسلوك، فالمسلم مطالب بسلوك سبيل العبودية لأنه يوصله إلى مرضاة ربه، وبه تتحقق كرامته الحقيقية، ويحظى بالسعادة الدنيوية والآخروية، أما حينما يستقر في وعي المسلم أن العبادات والأذكار والأوراد ما هي إلا وسيلة للوصول إلى الفتوحات والفيوضات والكشوف، فإن ذلك مبني على تصور خاطئ، قائم على رسوخ فكرة عارية عن الأدلة الشرعية الصحيحة والقويمة، فها هم سادات الأمة الصحابة رضي الله عنهم لم يعرف عنهم، ولا شاع في زمانهم ووقتهم، التطلع للكشوف والفتوحات الغيبية، أو جعلها أداة تثبت صحة التدين وصدق صاحبه. أعظم الكرامة ما أمر الله به رسله وعباده المؤمنين هو لزوم الاستقامة التي هي أعظم الكرامة كما في قوله تعال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود: 112)، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} (فصلت:6)، ويقول تعالى مبيناً عاقبة أوليائه الصالحين، ومحددا من هم، وما هي صفاتهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62 - 64). في صحيح مسلم، من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك، قال: (قل: آمَنْتُ بالله، ثم استقم)، وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) (رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدارمي). بعد إيراده لهذين الحديثين، قال ابن القيم (في مدارج السالكين): (المطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: (سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال. وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله، ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله. شمول الاستقامة ثم بيّن ابن القيم شمول الاستقامة لحقائق الدين وأصوله وشعبه فقال: (فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله، قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول:أعظم الكرامة لزوم الاستقامة. ما نقله ابن القيم ناسبا له لبعض العارفين، هو من كلام أبي علي الجوزجائي كما نقله القشيري في (رسالته)، وهو على وجازته واختصاره يبين القضية بيانا شافيا كافيا، ويلفت نظر العبد ويحضه على سلوك طريق الاستقامة مع الحرص الشديد على أسبابها وأعمالها، دون أن يشغل نفسه بطلب الكرامة، والتطلع إليها، مع أن النفس تتوق لذلك وتتشوف له. لكن إن أكرم الله عبده العابد المخلص في عبادته وسلوكه، بشيء من الكرامات، فهي من الخير الذي يسوقه الله إليه، يقول تعالى مبينا عاقبة أوليائه الصالحين، ومحددا من هم، وما هي صفاتهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62 - 64). كرامات الأولياء ثابتة مقررة عند أهل السنة والجماعة، كما هو مدون في أصولهم المعتبرة المعروفة، لكننا نجد أن ثمة تراثا ضخما يجنح حين الحديث عن الكرامات إلى المبالغات والشطحات إلى درجة الخرافات والخزعبلات، ومن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتاب _جامع كرامات الأولياء_ ليوسف النبهاني، حتى يرى ذلك بأم عينيه، ذاك التراث المنسوب إلى التصوف والصوفية، هو الذي يضخم القضية، ويخرجها عن أصولها الصحيحة، وسياقاتها الدينية الثابتة بأدلتها ودلائلها الصحيحة.