بقلم: الدكتور مصطفى يوسف اللداوي أيها المتحاورون في غزة، اعلموا أن الشعب الفلسطيني كله يتطلع إليكم، ويرنو بعيونه إلى اجتماعاتكم، وينتظر ما تسفر عنه حواراتكم، ولديه كل الأمل أن تنهوا خلافاتكم، وأن تتجاوزوا مشاكلكم، وأن تكون لقاءاتكم جدية، وحواراتكم مثمرة، فلا تكتفوا منها بحسن الترحاب، ولا بكرم الضيافة، ولا بشعبية الاستقبال. ولا يشبعن غروركم كثرة وسائل الإعلام، وصوركم التي ستنشر في كل مكان، بل اعلموا أن شعبكم سيمدحكم أو سيسبكم، سيشكركم أو سيشتمكم، سيحمد الله أن أكرمه بكم، أو سيلعن من عينكم، ومن سماكم متحدثين باسمه، ومعبرين عن حاجته، وجاء بكم من الظل إلى وهج الشمس، ولن يكون من بينكم كبيراً ولا مقدراً، ولا نبياً ولا قديساً، ولا سيداً ولا معصوماً، فأنتم لستم إلا خداماً لهذا الشعب، ومنفذين لرغباته، وعاملين من أجله، بل أنتم تقتاتون منه، وتعيشون على خيره، وتأكلون من فيئه. أيها المتحاورون ...لم يعد لدينا القدرة على مزيدٍ من الاحتمال، بل لا قدرة عندنا على المزيد من الأذى، فقد بلغ سيل خلافاتنا الزُبى، وأصبحنا نؤذي أنفسنا قبل غيرنا، ونسر عدونا، ونفرح خصمنا، وندمي عيون من أحبنا، ونحزن شعبنا وأهلنا، ونخيب آماله ورجاءه، وعدونا علينا يتفرج، وبنا يشمت. قد ضاقت علينا الأرض وهي لم تكن رحبة، وخنقت أنفاسنا وقد كانت معدودة، واشتد الحصار حولنا وقد كانت الأسلاك الشائكة تحيط بنا من كل مكان، والعدو يتربص بنا حيث نكون، ويعتدي علينا في المزارع والبيوت، ويقتلنا وقت يشاء، وبالطريقة التي يريد، وينتقي من يرغب في تصفيته، ويختار من يريد شطبه، من كل القوى والفصائل، ومن المنتمين والمستقلين، ومن العامة والخاصة، إذ لا يخاف من ردة فعل، ولا يخشى من غضب شعبٍ أخصت قيادتُه رجولته، واستخفت بمقاومته، وشوهت سمعته، وأساءت إليه وإلى سابق مقاومته، ونبل جهاده وصموده. أيها المتحاورون اعلموا أننا بتنا أكثر جوعاً، وأخطر مرضاً، وأشد ألماً، وأسوأ حالاً، وأقصر نفساً، وأضيق صدراً، ولم يبق عندنا من عوامل الصمود سوى الإيمان بالله والتوكل عليه، وصدق وأصالة هذا الشعب، وطيب أصله، وأصالة أخلاقه، وما عداه كان سراباً، ولا أمل فيه، فلا تتوقعوا من شعبٍ خبركم المزيد من الصبر، ولا الكثير من الانتظار، فما لا تتوقعونه يجب أن تخافوا منه، وتتحسبوا له، لأنه قد يكون هو القادم، ولا تعجبوا من شعبٍ جائع، أو ضاع حقه وسرق، ألا يحمل سيفه وبه يقاتل. أيها المتحاورون قضايانا بسيطة وواضحة، وهي قديمةٌ أصيلة، تمسك بها السابقون، وأورثوها لمن بعدهم من اللاحقين، نريد أرضنا، ولا نقبل أن نفرط في وطننا، ولا نريد أن نعترف بعدونا، ولا أن نسكت له على اغتصابه لحقنا، ولا نسلم له بما يريد، ولا نعترف له بما يحلم ويتمنى، كما نريد أن نتحد ونتفق، وأن نعيش تحت سقفٍ واحدٍ، وداخل أسوار وطنٍ مشترك، تجمعنا الاختلافات، وتزيننا التناقضات، لكن على قاعدةٍ من وحدة الأرض، وسلامة الوطن، وصدق النوايا، وسلامة الصدور. لكن شعبنا يحلم أيضاً ببيتٍ يستره، وعملٍ يكرمه، ومستقبلٍ يحفظه، وسفرٍ سهل، وانتقالٍ مريحٍ، ويتوق إلى وفرة طعامٍ، وحركة أسواق، ونشاطٍ في عجلة الاقتصاد، ويتطلع إلى تعليمٍ ميسر، وطبابةٍ وعلاجٍ متوفرٍ، ويتمنى أمناً في مجتمعه، وسلامةً في حياته، وحريةً كريمة، فلا يسجن لرأي، ولا يعتقل لوجهة نظر، ولا يعذب إن ارتفع صوته، ولا يضهد إن جاهر بانتقاده، ويتمنى ألا يكون الاعتقال بالتبادل، والقمع بالتساوي، والمعاملة بالمثل، فلا يجوز أن يدفع شعبنا غرامة اختلافنا، وضريبة عدم اتفاقنا. فلا تفجعونا أيها المفاوضون بشروطٍ معجزة، ولا بعقباتٍ مفتعلة، ولا بأماني كاذبة، بل كونوا على قدر المسؤولية، وأخلصوا لله نواياكم، وانظروا إلى معاناة شعبكم، وإلى مصيبة وطنكم، وتمزق وحدتكم، وضياع وطنكم، فما بعد هذه الفرقة من لقاء، وما بعد هذا الانقسام من وحدة، ولا يرجى بعد هذه القطيعة عودة، فكونوا أنتم له الأمل، واجعلوا من أنفسكم له الرجاء، علهم يرفعون إلى الله أكفهم إليكم بالدعاء، فاجعلوه دعاءً لكم لا عليكم، أن يبارك الله فيكم لا أن يأخذكم، وأن يوفقكم لا أن يسخطكم، وأن يجزيكم خيراً لا أن ينتقم منكم. ربما لو كان باستطاعة شعبكم أن يحبسكم جميعاً، ويغلق عليكم باب غرفةٍ أو قاعة، لأيامٍ أو أسابيع، يزودكم فيها بكل ما لذ وطاب من طعامٍ وشراب، ولا يحرمكم من شيء تحبونه، ولا يحجز عنكم شيئاً مما تفضلون، فقط ليجبركم على الحوار والتفاهم، والتلاقي والتفاوض، حتى تصلوا إلى قواسم مشتركة، ومنطلقاتٍ وثوابت وطنية، وحلولٍ ترضي الشعب وتخفف من معاناته، ربما لو كان يستطيع لفعل هذا وأكثر، إذ أظنه أكثر وعياً منكم، وأشد إخلاصاً ممن ادعى الوطنية فيكم، فأقلهم قد قدم أضعاف ما قدمتم، وضحى بأكثر مما أخذتم واستفدتم. لكنه شعبٌ مسكينٌ يعاني منكم، ويقاسي الويلات من سياساتكم، ويشكو المر من أشخاصكم، ويكتوي بمزاجيتكم، ويشك في إخلاصكم، ولا يطمئن إلى سلوككم، ولا يرتاح إلى حقيقة نواياكم، ولا يعرف أين ترسي مراكبكم، ولا أين تصب مياهكم، لكنه قد فتح عيونه فوجدكم على كراسيه، تتحكمون في قراره، وتتسلطون على مصيره، وتفرضون عليه ما ترون، ولو كان ظلماً واضطهاداً، أو بؤساً وحرماناً، أو خطأً وانحرافاً، فهذا قدره، أن يصبر بحكمةٍ وأناة، وأن يكظم غيظه وأن يعض على جرحه، لكنه لا يتمنى أن يكون الهلاك مصيره، والضياع منتهاه، والفشل آخرته، والخسارة عاقبته، فاحذروه وأخلصوا لله من أجله عملكم.