من أعظم ما ميّز الله به شهر رمضان المبارك، تصفيد الشياطين فيه، وإراحة الخلق من شرِّهم وضُرِّهم، وترك الفرصة مواتية لمن أسرف على نفسه بالذنوب أن يتوب، فمن صفَّدته الشياطين على مدى عامه المنصرم فلا يتحرك إلا في رضاها تغيّر به الحال فصار القيد على عدوّه، وأطلقه الله بعد قيده، وحرّره من أسر خصمه، فماذا بقي له إلا الفرار إلى الله ؟! وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم). وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، و لله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة. فرمضان فرصة عظيمة لكل مذنب وكلنا ذاك الرجل أن ينطلق في باحة الطاعة الرحبة بعد أن كان في قبضة الشيطان أو كاد، بعد أن فُكَّت عنه القيود، وحُلَّت الأصفاد. ويعجب البعض من جرأة الناس على انتهاك حرمة الشهر المبارك بالولوج إلى سجن المعصية، والتلطخ بأوحال الذنوب، والوقوع في شراك السيئة، وقد فُقد المحرِّض، وزال الموسوس، وغاب المُزين ... فما معنى تصفيد الشياطين وما زال الناس يقعون في الذنوب والمعاصي ؟! والحقيقة إنه لا يمكن لذي عينين أن يُنكر إقبال الناس على الخير في رمضان، وكفِّ الكثير منهم عن الكثير من الذنوب والعصيان، فها أنت ترى المساجد تمتلئ بعد قطيعة، والفقراء يغتنون بعد مسغبة، والقرآن يُتلى بعد هجر، وترى معالم الإيثار بعد مظاهر الأثرة، وتبصر النفوس تسكن، والضمائر ترتاح، والقلوب ترضى، والصلات تعود، والروابط تقوى، وغير ذلك مما لا تكاد تراه في غير رمضان، فهذا دليل ظاهر على الإقبال بعد الإدبار، والرجوع عقب التولي، وفي أعداد التائبين الرمضانيين ما يفوق العد والحصر، والمرد في ذلك الخير إلى تصفيد الشياطين وسلسلتهم لمنعهم من وسوستهم ... والتفسير أن الشياطين لا تخلص فيه لِما كانت تخلص إليه في غيره، فتضعف قواها، وتقل وسوستها، لكنها لا تنعدم بالكلية .. * وربما أن المراد بالتصفيد والسلسلة إنما هي للمردة ورؤوس الشياطين، دونما من دونهم، فيفعل الصغار ما عجز عن بعضه الكبار، وقيل العكس، فالمصفد الصغار، والمطلوق كبيرهم وزعيم مكرهم وكيدهم لأن الله أجاب دعوته بأن ينظره إلى يوم يبعثون، ليواصل الإغواء والإغراء والإضلال، وفي كلا الحالين فالعدد يقل، والوسوسة تضعف.. * وربما أن المراد أن الصيام يستلزم الجوع، وضعف القوى في العروق وهي مجاري الشيطان في الأبدان، فيضعف تحركهم في البدن كأنهم مسلسلون مصفَّدون، لا يستطيعون حراكاً إلا بعسر وصعوبة، فلا يبقى للشيطان على الإنسان سلطان كما في حال الشبع والري .. * وربما أن المراد أن الشياطين إنما تُغل عن الصائمين المعظمين لصيامهم، والقائمين به على وجه الكمال، والمحققين لشروطه ولوازمه وآدابه وأخلاقه، أما من صام بطنه ولم تصم جوارحه ولم يأت بآداب الصيام على وجه التمام، فليس ذلك بأهل لتصفيد الشياطين عنه .. * وربما أن المراد أن الشياطين يصفدون على وجه الحقيقة، ويقيدون بالسلاسل والأغلال، فلا يوسوسون للصائم، ولا يؤثرون عليه، والمعاصي إنما تأتيه من غيرهم كالنفس الأمارة بالسوء ..