بعد 52 سنة على استقلالها الجزائر أمام تحديات عظمى 5 جويلية 1962.. تاريخ تتذكره الجزائر وتحتفل بقدومه كل سنة متغنية ببطولات تاريخية عظمى في حرب خاضها شعب بسيط بمعدات تقليدية ضد احتلال عرف بأسطورة (القوة التي لا تهزم)، هو تاريخ استعادة السيادة الوطنية برحيل الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي عاث بالبلاد فسادا طيلة 132 سنة من الاحتلال، لتبدأ جزائر الاستقلال رحلتها نحو التنمية والبناء والتشييد في كافة مجالات الحياة التي كانت مدمّرة عن آخرها بفعل الجرائم الاستعمارية، غير أن أبناء فرنسا ومواليها من ذوي الفكر الفرونكوفوني الذين استمر عملهم حتى بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا عطّل وبشكل واضح مسيرة البناء ووضع الجزائر أمام تحديات صعبة كان من المفترض إنجازها خلال سنوات قليلة بعد الاستقلال. انطلقت الجزائر بعد استرجاع السيادة الوطنية محاولة لملمة جروحها والعمل من أجل بناء قاعدة صلبة تتكئ عليها مستقبلا في عمليات البناء والتشييد لاسيما فيما يخص الاقتصاد الوطني، فكانت المدرسة أولى الأهداف، وذلك من أجل تخريج جيل متعلم متشبع بالقيم الوطنية وناطق باللغة العربية، واعتمدت الجزائر لذلك مبدأ التعليم للجميع محاولة ترقية اللغة العربية وإحياء التراث الوطني مع رفض جميع أشكال التغريب الثقافي، كما عملت الدولة بعد الاستقلال على تحسين الجوانب الاجتماعية من خلال رفع مستوى المعيشة واستغلال الثروة الريفية من أجل ترقية الريف الجزائري متبنية الفكر الاشتراكي الذي كان آنذاك تجربة ناجحة تسترشد بها الدول حديثة الاستقلال من جهة ولارتباط الفكر الرأسمالي بالمستعمر القديم من جهة أخرى.. غير أنه ورغم التحمس الكبير الذي عرفته النخبة آنذاك في عمليات الإصلاح، إلا أن بقايا الاستعمار من (أبناء فرنسا) وذوي الانتماء الفرونكوفوني كانوا ينشطون في التيار المعاكس لإحباط أي محاولة لقطع الحبل السري الذي يفصلنا عن (ماما فرنسا( ونظرا لضعف التيار القومي العربي فقد كانوا أصحاب الغلبة بامتياز وهو ما يبرر فرنسة مؤسساتنا الوطنية وهيئاتنا الرسمية وأغلب وزاراتنا بعد مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال، بل وتغليب لغة المستعمر على اللغة الوطنية الرسمية حتى في المناهج الدراسية وتغييب كل من يطالب بالتعريب ولعل إلغاء محاضرة علي بن محمد وزير التربية السابق مؤخرا وهو المعروف بدفاعه عن اللغة العربية، وتوقيف نشاط الجمعية الوطنية للدفاع عن اللغة العربية قبل سنوات لأكبر دليل على ذلك، لتبقى الجزائر وإلى يومنا أمام تحديات لاتزال ترافقها منذ نيل استقلالها تتعلق على وجه الخصوص بإثبات الهوية الوطنية بعيدا عن التشويهات الغربية والآثار الاستعمارية التي لا تزال عالقة بثقافتنا للأسف. مخلفات الاستعمار حاضرة بعد 52 سنة رحل الاستعمار الفرنسي من أراضينا قبل 52 سنة تاركا وراءه مآسي لا تزال العائلات الجزائرية تتجرع مرارتها إلى يومنا هذا، في وقت تصر فيه الإدارة الفرنسية على الاستمرار في جرائمها بشكل يبدو أكثر تطورا، ففي السابق كانت الجرائم مباشرة من خلال عمليات القتل والحرق والتعذيب والتشريد، أما اليوم فالإدارة الفرنسية تصر على كتمان العديد من المعلومات التي قد تكفر بها ولو عن جزء بسيط مما اقترفته من جرائم بالأمس لاسيما فيما يخص مناطق المجال الإشعاعي الذي خلفته التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية، وتتواجد هذه المعلومات مفصلة ضمن الأرشيف الفرنسي في الجزائر والذي ترفض فرنسا الكشف عنه إلى يومنا هذا، وقد تعمد الاحتلال الفرنسي من جانب آخر ترك بصماته على كل ما هو جزائري عبر السنين ولعل الألقاب المهينة التي تحملها بعض العائلات الجزائرية واللغة الهجينة المتداولة في المجتمع اليوم لأكبر دليل على ذلك. متى تستعيد الجزائر أرشيفها؟_ سؤال يبقى مطروحا بعد مرور 52 سنة من الاستقلال أمام عجز الجزائر عن استعادة أرشيفها المسلوب والذي قدرته الدراسات التاريخية الجزائرية بحوالي 200 ألف علبة بحجم 600 طن من الأرشيفات تم تهريبها في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1961 و1962 بشكل عاجل بعد إعلان الاستقلال رسميا، إلى جانب عملية ترحيل 1500 علبة من الأرشيفات الجزائرية ما قبل الاحتلال الفرنسي، والخاصة بمرحلة الوجود العثماني خلال القرنين 16 و17، وهي تمثل الجزء القليل الناجي من عمليات النهب والحرق التي طالت أغلب الأرشيفات الجزائرية خلال دخول القوات الفرنسية إلى الجزائر، وقد أسندت عملية تهريب الأرشيف الجزائري إلى الثكنات العسكرية التي كانت لا زالت موجودة في الجزائر آنذاك، وقد أثبتت التقارير التي أعدتها المديرات الجهوية للأرشيفات في الجزائر، وهران وقسنطينة أن ترحيل الأرشيفات لم يخضع لمعايير محددة بل مسّ عمليا كل أوجه ومجالات الحياة الإدارية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية والاجتماعية للجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية. وقد بدأت عملية ترحيل الأرشيف خلال الثلاثي الأول من سنة 1961 بطريقة سرية دون الإعلان عن الهدف، حيث تمت أول عملية ترحيل للأرشيف الجزائري استجابة لتعليمة تثبتها المراسلة الصادرة عن المديرية العامة للأرشيف بفرنسا والمؤرخة بتاريخ 6 مارس1961، تلتها عملية أخرى عام 1962 جاءت إثر صدور قرار بنقل كل الوثائق المكتوبة بخط اليد او المطبوعة مهما كانت الأهمية التوثيقية والتاريخية التي تكتسيها، وذلك بحجة حمايتها من خطر نشاط المنظمة السرية الخاصة التي عارضت وبشدة فكرة الاستقلال. ويرقد أغلب أرشيف الجزائر اليوم لاسيما ذاك الذي يعتري أهمية خاصة تاريخيا بمقاطعة أكس أون بروفانس التي تقع 900 كيلومترا جنوب العاصمة باريس، وتعترف فرنسا من مجموع 600 طن و200 ألف علبة أرشيف بثلاثة وخمسين ألف علبة فقط أي ربع الأرشيف الجزائري المسلوب والذي تعتبره فرنسا أرشيفا فرنسيا وتسميه "الأرشيف الوطني لما وراء البحار" ، وذلك للدلالة على أنه ملكها على اعتبار أن الجزائر كانت فرنسية وهو الاعتقاد السائد في فرنسا إلى اليوم. ورغم أن فرنسا تعترف بامتلاكها لجزء من الأرشيف الجزائري مهما كان حجمه إلا أنها ورغم ذلك لم تسلم للجزائر سوى جزء قليل جدا يرتبط بالحقبة الاستعمارية على شكل دفعات في وقت سابق، لتبقى المطالبات مستمرة من أجل استرجاع الأرشيف المفقود كاملا خاصة من طرف الشخصيات الوطنية والأسرة الثورية في ظل ركود النخبة السياسية وتغاضيها عن الموضوع حفاظا على العلاقات الدبلوماسية. إشعاعات فرنسا مازالت تهدد الجزائريين 13 فيفري 1960 تاريخ تفجير فرنسا لقنبلتها النووية الأولى في الصحراء الجزائرية في ظل تعتيم إعلامي غربي وفرنسي كامل حول ظروف وسير التجربة وأخطارها على الانسان والحيوان، حيث شهدت منطقتي رقان بالهقار وواد النموس ببشار حوالي 17 تجربة نووية تفوق المنطق العلمي والضرورة الاستراتيجية، فبعد أن استباحت فرنسا الأرض وأصحابها لأكثر من قرن وثلاثين سنة أضافت إلى كل ذلك سلسلةً من التجارب النووية نفذتها بدءًا من عام 1960، و هي تدرك كليًا أخطار الأشعة المؤيّنة على الصحة والبيئة في وقت تفطن فيه الرأي العام لأبعادُ الهول النووي وأخطاره نتيجة التحذيرات التي أطلقتها جملة من التقارير العلمية التي صدرت بعد التفجيرات النووية التي طالت ناغازاكي وهيروشيما، ثمّ سلسلة التجارب البريطانية في أستراليا وتبعها الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى، حيث أكّدت هذه التقارير العلمية أخطار الإشعاع التي يمكن أن تستمر لآجال طويلة. وبالرغم من ذلك لم تتوان فرنسا عن إجراء تجاربها النووية لترتكب مرة أخرى واحدة من أبشع الجرائم في حق الإنسانية بعد أن أقدمت على إجراء 17 تجربة تم فيها تفجير 100 كيلو طن من الديناميت سطحيا و500 كيلو طن باطنيا، وبهذا يكون مجموع ما تمّ تفجيره سطحيًا وباطنيًا خلال كل فترات التجارب السبعة عشر هو 600 كيلو طن من الديناميت أي ما يعادل 40 مرّة قنبلة هيروشيما، وهذا دون نسيان عشرات التجارب النووية الأخرى التي لم يُعلن عنها، خاصّة تلك التي نتج عنها انتشار البلوتونيوم حسب ما أكدته بعض الدراسات. وبعد ما خلفته التجارب النووية الفرنسية في السابق بمقتل 42 ألف جزائري وإصابة آلاف الآخرين بإشعاعات، وأضرار كبيرة مست البيئة والسكان. لا يزال الخطر الإشعاعي وبعد مرور سنوات عن تلك التجارب يحدق بسكان الصحراء وهو ما أثبتته العديد من الدراسات والإحصائيات التي أجريت في سنوات سابقة، حيث كشف تقرير منبثق عن مجموعة من الزيارات العلمية التي قام بها فريق دولي من خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 1999 والذي نُشر سنة 2005 أن المناطق المحيطة بما كان يسمى نقاط الصفر للتجارب النووية السطحية الأربع السابقة ما تزال ملوثة بشكل كبير وإلى يومنا هذا، وهو ما يفسر الارتفاع الملفت لحالات الإصابة بالسرطان بين سكان تلك المناطق. ومع استمرار أخطار الإشعاع النووي الذي يخلف تأثيرات خطيرة على البيئة والسكان إلى يومنا لاتزال الإدارة الفرنسية تصّر على إبقاء ملف تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية في أدراج السّرية التامة، بالرغم من المحاولات العديدة التي سعت إلى فتح الأرشيف باعتباره ملكا للبلدين، على الأقل لتحديد مواقع ومجال التجارب وطاقاتها التفجيرية الحقيقية لأخذ التدابير الوقائية اللازمة لحماية البيئة والسكان، خوفا من زيادة التعرّض للإشعاع المتبقي في مناطق باتت تشهد تصاعد أعداد مرضى السرطان بكل أنواعه، وتكرار الولادات الناقصة والتشوّهات الخلقية المسجلة في تلك المناطق وغيرها من المظاهر المرضية المقلقة. 132 سنة على مجزرة الهوية تعيش عشرات العائلات الجزائرية اليوم على تبعات واحدة من أبشع الجرائم الاستعمارية في حق الهوية الوطنية ألا وهي (قانون الألقاب)، حيث يحمل آلاف الجزائريين اليوم ألقابا قبيحة لم يختاروها هم ولا آباؤهم، وإنما أجبروا على حملها بموجب (قانون الألقاب) الصادر عام 1882 من طرف الإدارة الاستعمارية، والذي ألزم المسلمين الجزائريين باتخاذ ألقاب أهلية خاصة بهم بعدما كانت الجزائر تعتمد مبدأ الاسم الثلاثي الذي تعتمده أغلب الدول اليوم والذي يحمل اسم الشخص والأب والجد، وذلك بحجة تسجيل الجزائريين في الحالة المدنية وتسهيل التعرف على كل الأفراد. وبموجب "قانون الألقاب" الصادر بتاريخ 23 مارس 1882 تم تغيير الآلاف من الألقاب الجزائرية إلى ألقاب غير لائقة انتقاما من الأهالي ورغم استقلال البلاد ومرور 132 سنة على إصدار هذا القانون لا تزال الوثائق الرسمية تشهد على هذه الجريمة في حق الهوية الجزائرية إلى يومنا هذا، بعد أن توارثت العائلات هذه الألقاب المهينة من الأجداد إلى الأحفاد منذ عام 1882، وقد تعمدت الإدارة الفرنسية آنذاك اختيار ألقاب مهينة للأهالي بعضها يحمل معاني عاهات، مثل العايب، فرطاس، لطرش، العقون، بكوش.. وأخرى تحمل دلالة الألوان، مثل بالأحمر، بالأزرق، بالأكحل... ومنها ما يحمل معاني لبعض أدوات العمل، كبومنجل، بوكرسي، بوطاجين.. وألقاب أخرى تحمل معاني أعضاء من الجسم، بوضرسة، بوذراع، بوشارب.. ومعاني مهن كحداد نجار.. وأحيانا يطلق على العائلات صفات ذميمة، مثل سراق، خاين، جياف النملة، ذباح، مجراب.. والأسوأ من كل هذا وذاك تلك الألقاب التي تحمل أسماء الأعضاء التناسلية للإنسان، إذ لا يتصور عاقل أن العشرات من العائلات الجزائرية لا زالت تحمل ألقابا تحمل التسمية الصريحة للأعضاء التناسلية. وقد كان إصرار الإدارة الاستعمارية على مسخ الهوية الجزائرية كبيرا، إذ سبق صدور قانون الألقاب محاولات متواصلة لطمس الهوية كانت أهم ملامحها إجبار الأهالي على تسجيل المواليد الجدد وعقود الزواج لدى مصلحة الحالة المدنية الفرنسية، بعدما كانوا يقصدون القاضي الشرعي أو شيخ الجماعة وجاء قانون الألقاب ليكمل المخطط الجهنمي الفرنسي الذي هدف المستعمر من خلاله إلى الاستيلاء على الأراضي، وتفكيك نظام القبيلة، وإبراز الفرد كعنصر معزول لإرساء دعائم الملكية الفردية، وتغيير أساس الملكية إلى أساس النسب بدلا من أساس القبيلة، والقضاء على الشخصية الإسلامية من خلال تغيير الأسماء ذات الدلالة الدينية، وإحلال الفرد في المعاملات الإدارية والوثائق مكان الجماعة، وتطبيق النمط الفرنسي الذي يخاطب الشخص بلقبه وليس باسمه، وهو ما بقي متداولا حتى بين أجيال الاستقلال ففرنسا لم ترتكب مجازر في حق جيل الثورة فقط، وإنما عمدت أيضا إلى إهانة وإذلال أجيال الاستقلال وقتل معنوياتهم بتسجيلهم في الحالة المدنية بأسماء لم يختاروها، كانت في معظمها تحمل معان مشينة وقبيحة مثيرة للاستهزاء. هذا وتتيح السلطات لذوي الألقاب المشينة تغيير ألقابهم لكن سير العملية يبدو بطيئا نظرا للشروط التي تفرضها الإدارة، والدراسة المعمقة لكل ملف على حدى قبل إعطاء الموافقة بالتغيير ، حيث أن كل ملف يخضع للمداولة على مستوى لجنة مختصة، تعمل بالتعاون مع وزارة الداخلية والجماعات المحلية وأعضاء من وزارة العدل للفصل في طلبات التغيير، ليتمكن خلالها الطالب من تغيير هويته، وقد راهنت وزارة العدل على إلغاء كل الألقاب المشينة من موسوعة الألقاب الجزائرية، باعتبارها إحدى مخلفات الحقبة الاستعمارية وهناك الآلاف من طلبات التغيير التي تصلها غير أن الوزارة تفرض عدة قيود وضوابط وشروط، لتغيير ألقاب ملايين من الجزائريين من الذين أجبروا على حمل ألقاب مهينة لعقود، وتبرر الوزارة وضعها لهذه الشروط بتفادي عمليات تغيير الألقاب دون أسباب جدية.