عبد الله القرشي منذ أن وعيت وأنا أسمع في حكمة الصيام هذه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) [وكنت لا أتبيّن معناها ومغزاها ؟! فلما نظرت إلى المعركة الدائمة في هذه الحياة، وهي شرط النجاح والفلاح لهذا الإنسان، فإذا هي معركة بين (الهوى،والإرادة). ولن تجد نجاحا في دنيا أو آخرة إلا بعد أن يخوض هذه المعركة الطويلة المضنية، ولن يبقى أحد في نجاحه وفلاحه إلا استمر منتصرا في معركة الهوى والإرادة، هنا غرفة العمليات لكل ما تراه عينك من فوز أو خسارة، ذلك التاجر الذي نجح في تجارته كان في ميدان المعركة كل صباح، هواه يأمره بالنوم، وإرادته تأمره بالعمل، ولو أطاع هواه ما كسبت تجارته، وذلك الطالب الخرّيج المتفوق على زملائه، والمحتفى به من أهله وأصحابه، ما كان له أن يذوق هذا النجاح، لولا انتصاره في معركة الهوى مع الإرادة، فبينما بعض زملائه يطيعون أهواءهم في لهو ولعب، وحديث مسترسل لا يعود عليهم بالنفع والفائدة، كان هذا المتفوق يزمُّ هواه، ويطيع إرادته، ويجبر نفسه على اختيار الجد بدل اللعب، والمذاكرة بدل الكسل. وتلك الدولة التي تفوقت في اقتصادها، وأحكمت قوتها، وأتقنت إدارتها، لم تصل إلى ذلك إلا بعد انتصار يومي في معركة الهوى والإرادة. ولذلك جاء الطريق إلى الجنة واضحا بلا لبس، مستقيما بلا عوج، يمكن أن تختصره في هذه الكلمات المعدودة: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) هذا المفتاح الذي تفتح به جنات الدنيا والآخرة: الانتصار في معركة الهوى، إن الهوى مع الغفلة والاسترسال يكبر ويقوى ويتسلط ويستبد، حتى يصبح إلها مطاعا إن أمر أو نهى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)) وهو مع اليقظة والتدريب والاستعانة بالله يهزل ويضعف، ويخاف ويرتبك، والصيام جاء دورة تدريبية عجيبة، تتكرر كل عام لكل من يشهد أن لا إله إلا الله، لتقوية الإرادة، وإضعاف الهوى؛ فيرى الماء الزلال في حال عطشه، فيأمره هواه أن يمد يده، وأن يروي عطشه، ثم يعصي هواه ويصبر على الظمأ، لأنه (يريد) ألا يشرب، ويتكرر بصره على طعام لذيذ، وهواه يأمره أن يتناول لقمة واحدة، فيعصي هواه لأنه (يريد) ألا يأكل، وهكذا الأمر في شهوته، ويظل الصائم بياض يومه في معاندة لهواه، وتمرد وثورة حتى يصبح هواه محكوما لا حاكما، وتابعا لا متبوعا، إن كل شهوة لشراب أو طعام لا يستجيب لها الصائم، هي قوة يمدّ بها إرادته، وضعف يُلحقه بهواه، حتى تكون المعركة بينهما بعد ذلك لصالح الإرادة الصالحة، على الهوى الفاسد وتلك هي التقوى! التقوى هي التي منعت يوسف حين خلت به امرأة العزيز في جمالها وشغفها وزينتها، وهو في فتوته وشبابه، في قصرها وحكمها يُرجى خيرها ويُخشى عقابها، ثم تقول له: هيت لك.. وتقول طبيعته: هيت لك.. وتقول هيبتها: هيت لك، وكأنه الصائم ينظر إلى كوب الماء البارد وهو على تعب وظمأ، فيقول: (مَعَاذَ اللَّهِ) ! الله أكبر.. إن في جرس هذه الكلمة وحروفها صوت النصر والظفر على العوى والنفس.