تحلّ على الشعب الجزائري غدا الاثنين الذّكرى ال 56 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، ذاك التاريخ الذي سيظلّ راسخا في أذهان الجزائريين جيلا بعد جيل، وهو ليس تاريخا لبداية مسيرة النّصر فقط وإنما تاريخ لآلام الجرائم الاستعمارية أيضا· ولعلّ شهادات من حرّروا الوطن دليل على فظاعة وبشاعة المستعمر الذي استعمل كلّ الطرق لتعذيب وعزل الوطنيين بمساعدة الحركى الذين ستبقى نذالتهم عارا لا يمحوه الزّمن، أمّا العذاب الأكبر فهو عند العليّ القدير· وبالرغم من كلّ ما كتب عن تاريخ الجزائر إلاّ أنه لا يمكن القول إننا استوفيناه كلّ حقّه، فهناك شهادات لأشخاص لم يذكرهم التاريخ لكنهم أدّوا أدوارا لا يستهان بها في تحقيق النّصر، غير أنها لم تدوّن في الكتب مثل الشهادة الحيّة التي انتزعناها من خالتي الزهرة العقراري المجاهدة البطلة المولودة بتاريخ 6 جوان 1943 بسيدي عكّاشة بمنطقة تنس ولاية الشلف· بنبرات حزن وتألّم، تروي لنا الزهرة العقراري المجاهدة وهي ابنة شهيد، أرملة لشهيد، أخت ل 3 شهداء وزوجة مجاهد، شهادتها الحيّة حول ما عايشته إبّان الثورة المجيدة من أحداث ومآسي أدّت إلى يتمها وهي بنت ال 13 ربيعا وإلى ترميلها وهي لم تتعدّ ال 15 من عمرها، تحدثّت عن الإبادة الجماعية التي راح ضحّيتها أكثر من 50 فردا من عائلتها الثورية التي لاتزال مقبرة بتنس تحمل ذكراهم تحت أسماء كلّ واحد منهم تعيد إلى خالتي الزهرة ذاكرتها إلى زمن الأبطال الحقيقيين الذين حرّروا الوطن من جبروت مستعمر أراد الانصهار بدم الجزائريين وغرس جذوره بأرض المليون ونصف المليون شهيد بمساعدة المغرّر بهم من الحركى، غير أن إرادة الوطنيين واليقين بالانتصار حال دون ما كان يطمح إليه ديغول وبيجار السفّاحين· بجبل بيسا المطلّ على مشارف البحر الأبيض المتوسّط شمال شرق منطقة تنس الساحلية، تروي لنا الخالة الزّهرة أحداث لاتزال ذاكرتها شاهدة على روعة المعارك التي شنّها العدو على الأهالي بالمنطقة، خاصّة عائلة العقراري التي يشهد لها مجاهدو الضاحية بأنها بذلت النّفس والنّفيس من أجل أن تحيا الجزائر حرّة مستقلّة· - محمد العقراري: "بطل دوّخ المستعمر وأرغم على حفر قبره بيديه" تتحدّث خالتي الزهرة عن بدايات ولوج عائلتها الثورية لخدمة الثوّار بالجبل عندما استطاع والدها محمد العقراري أن يشكّل مركزا بجبل بيسا الكائن بمنطقة تنس، أراده أن يكون معقلا للإخوة المناضلين من أجل تزويدهم بالمال والسلاح والمئونة، حيث كان له ذلك بمساعدة الوطنيين والعديد من أفراد عائلته التي التحقت به أين شغل كلّ منهم مناصب مختلفة بعدما وزّعت عليهم المسؤوليات من ممرّضين، حرّاس ومقاتلين· غير أن الطامة الكبرى التي حلّت بالبطل هي البيعة التي حدثت في حقّه عندما أقدم أحد أبناء الحركى المعروف بالمنطقة حسب ما لقّبته الخالة ب حموين بوعلام بإدلاء شهادته ضده للجيش الفرنسي قائلا لهم إن محمد العقراري مرابط وابن مرابط وفلاّف كبير، لذا تعتبر حياته خطرا على الوجود الفرنسي بالجزائر وعليه وجب إبادته· فسجن البطل رفقة 3 من أبنائه وهم على التوالي محمد، مروان وعبد القادر بمركز عمرونة بالقرب من منطقة بيسا وعذّبوا بأبشع الطرق، ليتمّ بعدها إطلاق سراح الأبناء في حين أبقي على الأب وأشيع آنذاك خبر نقله إلى سجن البروافية، غير أنها كانت إشاعة لا غير وبقي الأب يواجه أبشع العذاب بعدما تمّت مصادرة كلّ أمواله، في حين قتلت ماشيته من أبقار وغنم وشرّدت أغلب أفراد عائلته· وبقي الأب وقتها يصارع العذاب وأجبر على حفر قبره بيده من طرف الميليشيات الفرنسية، ليتلقّى رصاصة من طرف الحركي حموين التي أرادته قتيلا فوق القبر الذي حفره وتمّ الدوس فوق جثّته بأرجلهم، ليستشهد البطل عام 1956 وسنّه لم يتجاوز آنذاك ال 50 سنة· - عائلة تدفع 50 فردا من أبنائها في سبيل اللّه تقول المجاهدة خالتي الزهرة إن جيش الاستعمار الفرنسي قضى على جلّ أفراد عائلتها الصغيرة منها والكبيرة، ولم يبق منهم سوى الأمّ والأخ بوعيسى الذي لم يظهر عليه أيّ أثر إلاّ بعد الاستقلال، في الوقت الذي أشيع فيه خبر وفاته عبر منطقة تنس بأكملها، وتضيف بتألّم أن فراق أبيها وإخوتها الثلاثة أثّر عليهم كثيرا، ممّا جعلها تقبع في الجبال خدمة للمجاهدين وتقول إن زوجتي أخويها الشهدين مروان وعبد القادر تلقّيتا المصير نفسه، واستشهد عمّاها الاثنان و3 من أبنائهم، إلى جانب أبناء عمّ الأب وزوجاتهم ممّن كنّ في الجبل، ليصل مجموع شهداء عائلة العقراري الواحدة إلى أكثر من 50 فردا من آباء وزوجات وأبناء وأعمام وأجداد لاتزال مقبرة الشهداء بمنطقة تنس تحمل قبرا بأسماء كلّ واحد منهم، وتقول إن الاستشهاد واحد غير أن الطريقة تختلف من شهيد إلى آخر· تتنهّد الخالة الزّهرة قليلا ثمّ تكمل حديثها: مررنا بأوقات صعبة وعسيرة فقط لوجه اللّه ومن أجل تحرير هذا الوطن من أيادي المستعمر الذي أراد أن يطمس شخصيتنا ويستولي على قيمنا وديننا الحنيف، كيف لا ونحن اليوم نعيش مثلنا مثل باقي المواطنين العاديين، خاصّة وأننا لم نطالب بالتعويض عن ما فقدته العائلة إبّان الثورة من مال وفارقي الحياة من شهداء إلاّ بعد مرور سنوات· - معاناة وصمود في الجبال خالتي الزهرة تلك المرأة طيّبة القلب، تروي قصّتها الجريئة بالجبل إبّان الثورة التحريرية التي تقول بشأنها إنها أصعب مراحل حياتها كون طفولتها قضتها في الجبال وأدغال منطقة بيسا، تقول إنها تزوّجت في ال 13 من عمرها من ابن عمّها المدعو سي لحسن الذي أرغمت على الزّواج منه كرها بالرغم من رفضها له، وأن سي لحسن كان مدرّس اللّغة العربية بمدرسة سيدي عكاشة بعدما تلقّى تعليمه بجامع الزيتونة بتونس، لكن شاءت الأقدار أن يستشهد دون أن يتمكّن من رؤية ابنته فاطمة التي كانت في رحم أمّها في الشهر الثامن، والتي جاءت إلى الحياة سنة 1960 بشقّ الأنفس· حيث وفي اليوم الذي كانت فيه الخالة الزهرة تتهيّأ لوضع طفلتها بعدما أتاها المخاض الأوّلي داهمتهم مجموعة من الجيش الفرنسي الذين استقصوا عن مكانهم بمساعدة بعض الحركى على حدّ قولها فجاءهم الإنذار عن طريق حارس لينطلق الكلّ فارّا هاربا نحو الغابة المجاورة، واشتدّ حينها المخاض على السيّدة الزهرة ذات ال 14 ربيعا بسبب ركضها بعدما توقّفت في نصف الطريق لولا تدخّل العجوز المرافقة لها ومنحها القوّة وعدم الاستسلام لكانت الخالة في عداد الموتى بأبشع الطرق، وتضيف أنهم وبعد تمكّنهم الإفلات من قبضة العسكر ركنت إلى منطقة بالجوار لتضع مولودها في الظلام بعدما أشعلت القابلة العجوز قليلا من النّار في العشب لمساعدة الخالة على الإنجاب وأتت الطفلة فاطمة إلى الحياة عام 1960، وبقيت الأمّ النّفساء مدّة 3 أيّام دون أكل ولا شرب بسبب الحصار الذي فرض عليهم من طرف الجيش الفرنسي، حيث أصبحت لا تقوى على السّير ولا على الكلام لهزل جسمها النّحيف، علما أن سنّها لم يتجاوز آنذاك ال 15 ربيعا· غير أن مشيئة الخالق أرادت للطفلة والوالدة العيش بعدما حدث اشتباك بين العدو وجيش التحرير بالقرب من منطقة سيدي عبد الرحمن فعاد الجيش الفرنسي إلى الوراء لملاحقتهم، واستطاع الفارّون الهروب إلى الأمام أكثر والتمكّن من إشعال النّيران والطهي ولم يكن أمامهم يومها سوى وضع قليل من حشيش الفرنينة في إناء لسدّ جوع الأمّ النّفساء، في حين انطلقت بعض النّسوة في إخراج الكسكسي المخزّن داخل مطمورات بالأرض لسدّ جوع الإخوة المجاهدين والمرافقين لهم من أطفال ونساء· بوعيسى العقراري·· قصّة "شهيد" وُجد حيّا يرزق! بوعيسى مجاهد آخر من عائلة العقراري الذي لم يذكر اسمه كثيرا في أرشيف تاريخ ثورتنا غير أن دوره كان جدّ فعّال، أشيع خبر وفاته فظنّ الكلّ أنه استشهد في إحدى المعارك التي شارك فيها بمنطقة تنس وضواحيها، لتصبح السيّدة الزهرة وأمّها المتبقّيتين من العائلة تصارعان الصّعاب لوحدهما· تمرّ الأيّام وتسترجع الجزائر استقلالها وكلّفت السيّدة الزهرة بتوزيع الأوراق في الشوارع تقول من خلالها إن الجزائر استرجعت استقلالها، غير أنها اندهشت أثناء المهمّة التي منحت لها بوسط المدينة بنبأ وجود أخيها حيّا يرزق بعدما كلّف هذا الأخير أحد معارفه من مدينة حجّوط (مارينغو سابقا) التي احتضنه مستشفى المدينة فترة من الزمن بعد تعرّضه لجروح في معركة بمنطقة مناصر غرب مدينة حجّوط التي ظلّ بها المجاهد بوعيسى قاطنا رفقة عائلته منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا· - المجاهد السي المنجوح ومعركة "تازعنونت" الشهيرة في 24 فيفري 1958 معمّر قرشي الملقّب بالسي المنجوح الاسم الثوري، يعتبر فردا آخرا ينضمّ إلى مسيرة عائلة العقراري بعدما تزوّج من المجاهدة خالتي الزهرة مباشرة بعد الاستقلال· ذاك البطل الذي كان له الفضل في تحقيق نجاح وانتصار معركة تازعنونت الأسطورة بتنس، أجلب نجاحات كبيرة لجيش التحرير بقوّته وجبروته وإيمانه بالحرّية تمكّن بفضله المجاهدين من الاستيلاء على كمّية كبيرة من الأسلحة والذخيرة في اشتباك كبير بعدما فرّ من قبضة الجيش الفرنسي الذي كان سجينا لديه وعلى ظهره راديو الاتّصال اللاّ سلكي الذي أجبر على حمله من طرفهم رغم ثقله، غير أن شجاعته وإصراره على الكفاح مكّناه الفرار من قبضتهم ومن الرّصاص الموجّه صوبه رغم ثقل الحمولة التي كانت فوق ظهره، وهو الجهاز الذي كان يستغلّ للاتّصال مع طائرات الهليكوبتر· هي الأحداث التي جعلت المجاهدين يلقّبونه ب سي المنجوح أي المتسبّب في النّجاح، خاصّة بعد تحقيقهم فوزا كبيرا على المستعمر في معركة تازعنونت الموافقة ل 24 فيفري سنة 1958· - أعجب بها في الجبل وتزوّجها بعد الاستقلال لم تخل فترات الثورة من قصص الإعجاب والزّواج، بل عاش العديد من المجاهدين قصصا في الجبال التي ضمّتهم، تكلّلت أغلبها بالزّواج مثلما حصل للمجاهد السي المنجوح والمجاهدة خالتي الزهرة· فبعد فترة مهمّة قضياها في مركز المجاهدين بالجبل، أعجب عمّي معمّر آنذاك بالشابّة التي كان سنّها يتراوح بين 17 و18 سنة، لأخلاقها العالية وخفّتها إلى جانب جمالها، كلّها صفات اجتمعت بفتاة ترمّلت وهي في مقتبل العمر· وشاءت الأقدار أن تترك الشابّة الزهرة منطقة تنس للاستقرار في مدينة حجّوط أو بما كانت تلقّب بمارينغو سابقا، لزيارة أخيها بوعيسى الذي عثر عليه بعد الاستقلال حيّا يرزق رغم ظنّهم أنه ضمن عداد الشهداء· واستقرّت الزهرة في المنطقة، وقتها كان السي المنجوح في رحلة بحث عنها فاستفسر عن مقرّها ولحق بها باتجاه حجّوط أين طلب يدها من أخيها ووالدتها وتزوّجا بعد مرور حوالي 4 أشهر من الاستقلال، وأنجبت منه السيهدة الزهرة 6 أولاد أوّلهم محمد الذي ولد في السنة الموالية للاستقلال عام 1963· للإشارة، فان المجاهد معمّر قرشي المولود سنة 1913 بتنس والقاطن حاليا بمدينة حجّوط بولاية تيبازة، يعتبر أرشيفا حقيقيا لثورتنا المجيدة وجب تدوين شهادته والاعتناء به في هذه المرحلة من حياته بعدما نال منه الكبر والمرض دون التفاتة من أيّ جهة مسؤولة، فهو يصارع المرض رفقة زوجته خالتي الزهرة التي تعتني به كما كانت تفعل ذلك في الماضي البعيد· وفي ختام اللّقاء الذي جمعنا ببسلاء الثورة المجيدة، تتقدّم المجاهدة الزهرة وزوجها معمّر قرشي بتقديم تحيّة عرفان وتقدير عبر هذا المنبر الإعلامي إلى سي حسان الخطيب وزوجته الممرّضة مريم المجاهدين اللذين رافقاه في مركز سي بكري بالقرب من جبل بيسا، حيث تقبع العائلة حاليا ببئر مراد رايس بالعاصمة· في حين وجها دعوة للشباب الصاعد بضرورة حبّ الوطن والتمسّك به لأن الحرّية لم تأت بسهولة وإنما بشقّ الأنفس، في الوقت الذي راح فيه ضحّيتها الملايين من الشهداء والآلاف من المعطوبين والمقعدين في سبيل استرجاع السيادة رغم الدسائس التي لاتزال فرنسا تفتعلها للجزائر بسبب أطماعها التي لا تتوقّف