بقلم: ياسر بودرع كتب فرانسيس فوكوياما عن (نهاية التاريخ) وكتب صامويل هنتينجتون عن (صدام الحضارات) و كل منهما بنى أطروحته على نهاية الحرب الباردة كحقبة تاريخية افترضا أنها لن تعود أبدا، لكن مقولة (أن التاريخ يعيد نفسه) تثبت صحتها مرة أخرى فالوضع الدولي الراهن الذي يميزه التنافس الروسي الأمريكي يحاكي فترة الحرب الباردة. لطالما تميزت العلاقة بين الناتو وروسيا بالتوتر لمحاولات الحلف مستمرة التوسع شرقا ما نتج عنه عدة أزمات سابقا، لكن ومنذ ضم الكريملين شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي واحتدام الصراع في شرق أوكرانيا صار التصعيد على أشده، حيث أعلنت أمريكا اعتزامها إرسال مزيد من قواتها الجوية إلى دول البلطيق ونيتها إقامة قاعدة لقواتها الجوية باستونيا ما يشكل تحديا أمنيا حقيقيا لروسيا باعتبار استونيا دولة مجاورة لها وقريبة من سانت بطرسبرغ وهو ما دفع بها إلى القيام بعملية إنزال في القطب الشمالي لترسل رسالة إلى أمريكا مفادها أنها قريبة منها أيضا، ليكشف بذلك الصراع في شرق أوكرانيا عن صراع نفوذ كبير بين روسيا من جهة والولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة أخرى وهو صراع عاد ليعطي حياة جديدة للحرب الباردة. الوجه الآخر للحرب الباردة الجديدة إن الفصل الجديد من الحرب الباردة يشبه الوجه القديم في ملامح رئيسية كالتنافس الروسي الأمريكي لكن يختلف عنها في ملامح أخرى فقد تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بصراع إيديولوجي بين نظام رأس مالي يؤمن بحرية الفرد وحرية الاقتصاد ونظام شيوعي يرى ضرورة احتكار الدولة لوسائل الإنتاج، لكن التنافس الحالي لا يسير في هذا الاتجاه فروسيا لا تهتم بمحاربة الرأسمالية أو محاربة الحرية اللبرالية كأولوية وأمريكا بدورها لا تخشى إطلاقا على نهجها اللبرالي من عودة الشيوعية وبالتالي لن تكون هناك حرب إيديولوجية بالشكل الذي كان الأمر عليه خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الصراع الحالي هو بين قوة عالمية مهيمنة ممثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تريد لأي قوة أخرى أن تنافسها حتى لو تعلق الأمر بحلفائها الأوروبيين كبريطانيا وفرنسا وفي الجهة الأخرى الدب الروسي يستعيد عافيته تدريجيا ويعمل جاهدا على العودة إلى سابق عهده كقوة فاعلة في النظام الدولي وروسيا لن تمانع في ظهور نظام متعدد الأقطاب وهي لا تسعى إلى نظام دولي ثنائي القطبية بالضرورة. لم يجد الغرب من وسيلة لتضييق الخناق على روسيا والحد من طموحاتها سوى الاتجاه إلى سلاح العقوبات الاقتصادية التي مست قطاع النفط وشركات ومصارف روسية لكن الغرب يدرك جيدا أن التكاليف ستكون باهظة بالنسبة له خاصة الدول الأوروبية فالرد الروسي الأول جاء بفرض حظر على استيراد مواد غذائية غربية، إن العالم اليوم قد تغير عما سبق ففي أيامنا هذه توجد البورصات المتحكمة في الاقتصاد العالمي والتي تتأثر بالمناخ السياسي المحلي والدولي وأصبحت التجارة والاقتصاد العالميين أكثر ترابطا وتشابكا، فروسيا تصدر غازها إلى مختلف مناطق العالم ورجال الأعمال الروس ينتشرون في مختلف الدول ويؤثرون في الاقتصاد العالمي لذلك سيكون من غير المنطقي أن يفرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا دون أن يتأثر هو الآخر، وروسيا أصلا تحركت على الساحة الدولية مستغلة التحولات الاقتصادية الجديدة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت أمريكا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة أجبرتها على إعلان خفضها الموازنة الدفاعية ب 450 بليون دولار وهذا يعني أن التدخل العسكري الأمريكي في أية منطقة حول العالم خيار مستبعد في الفترة الراهنة كما تعيش دول الاتحاد الأوروبي ضغطا اقتصاديا كبيرا بدورها. هكذا يفكر الدب الروسي الدب الروسي يدرك جيدا أنه الوقت المناسب لتغيير النظام الدولي بشكله الحالي الذي مثلت الولاياتالمتحدةالأمريكية فيه اللاعب الوحيد ويدرك الروس أيضا أن بداية عودتهم تكون من نقطة عدم تجاوزهم مستقبلا في القضايا الدولية الهامة، فروسيا اليوم لم تعد تقبل الوقوف متفرجة على الأحداث بل تريد أن تشارك في اللعبة كلاعب مؤثر ورئيسي ولهذا نلاحظ ثباتها على مواقفها بخصوص إيران والأزمة السورية فلعبت دورا هاما في استبعاد الضربة الغربية لإيران كما يعود لها الفضل في بقاء نظام الأسد قائما حتى الآن، ويأتي هذا التصلب الروسي في مواقفها بعد أن أدركت حجم الخطأ الاستراتيجي الذي قامت به حين غضت الطرف عن الغرب في إسقاطه نظام القذافي مقابل إغراءات اقتصادية قدمت لها، تبين لروسيا لاحقا أن مسايرتها الغرب ستضعف من حجم تأثيرها في المنظومة الدولية فهي دائما كانت تعارض التدخل الأمريكي في سياسات الدول بحجة تصدير الديمقراطية ولا تتفق موسكو إطلاقا مع الغرب في نقطة انتهاك سيادة الدول بحجة التدخل لأغراض إنسانية. النظام الدولي اليوم يمر بمرحلة انتقالية تحاول خلالها أمريكا الحفاظ على سطوتها وهيمنتها وتحاول إعادة الانتشار مجددا خاصة في الشرق الأوسط عبر إقامة علاقات قوية مع إقليم كردستان العراق وكذا تقوية علاقاتها مع الدول الخليجية على رأسها السعودية وإعادة الدفء إلى علاقاتها مع مصر من خلال إقامة حلف جديد يجمعها بهذه الدول في حرب كونية على الإرهاب، في المقابل تحاول روسيا البحث عن مناطق نفوذ حيوية جديدة عبر التوجه نحو الشرق وتراهن على اكتساب مزيد من الحلفاء العرب إضافة إلى حلفائها المعروفين في مقدمتهم الصينوإيران والهند ودول منظمة شنغهاي، فهي حاليا تحاول بناء علاقات متينة مع مصر في محاولة لملء الفراغ الناتج عن الشرخ الحاصل في العلاقات الأمريكية المصرية، وهذا ما بينته زيارة السيسي الأخيرة إلى موسكو ولن تقتصر محاولات التمدد الروسي على مصر فقط بل تتعداها إلى باقي دول الشرق الأوسط وكذلك دول شمال إفريقيا حيث تملك أهدافا إستراتيجية هامة، والدول العربية بدورها قد تجد ضالتها في روسيا لإحداث نوع من التوازن في العلاقات الدولية وتحسين موقفها التفاوضي إضافة إلى احتياجاتها التقنية والتكنولوجية، فروسيا أبرمت مؤخرا اتفاقيات تعاون في المجال النووي وميدان الطاقة والتسلح مع دول عربية مختلفة مثل الجزائر والسعودية والإمارات ومصر والبحرين. المقامرات الكبرى الإشكالية الكبيرة التي يفرزها هذا التنافس الجديد الروسي الأمريكي تتمحور حول شكل ومستقبل الصراعات في الفترة القادمة، فالأكيد أنه لن تكون هناك حروب كبيرة وصراعات كونية من نوع (المقامرات الكبرى) في ظل توازن الرعب النووي تبقى الحروب المباشرة بين القوى الكبرى أمرا جد مستبعد فأي حرب مباشرة بين القوى النووية ستجر العالم إلى الهاوية وتؤدي إلى زوال البشرية، لكن من غير المستبعد أن نشهد عودة الحروب بالوكالة كما هو حاصل الآن في شرق أوكرانيا بين المتمردين والقوات الأوكرانية، ومن غير المستبعد أيضا أن نشهد نظاما دوليا جديدا متعدد الأقطاب تخف فيه حدة التوترات والصراعات مع إعادة توزيع لمناطق النفوذ وفق اتفاقات ضمنية بين القوى الكبرى، فالدب الروسي يعود إلى مكانه الطبيعي مع صعود صيني متسارع سيؤدي بالتأكيد إلى عالم متعدد الأقطاب لكن ذلك يتوقف أيضا على ردة فعل واشنطن وماذا بقي لديها لحفظ هيمنتها المطلقة على العالم خاصة أن الاضطرابات والمشاكل والحروب الكبيرة التي شهدها العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة تدل على أن نظام القطب الواحد فشل فشلا ذريعا في الحفاظ على الأمن والاستقرار في العالم وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فأمريكا في النهاية سوف تجد نفسها مجبرة على احترام التوازنات الدولية التي تضعها روسيا والأمريكيون حاليا غير متأكدين من النتائج التي قد تترتب عن كسر تلك التوازنات بما فيها الجديدة منها ويمكن أن نلمس ذلك الحذر الأمريكي والغربي بالتردد في ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو رغم سعي الأخيرة إلى ذلك بشدة. هكذا فإن التحوّلات الأخيرة على الساحة الدولية تضع (نهاية التاريخ) و (صدام الحضارات) في مرمى النقد، فبينما تكلم فوكوياما عن الانتصار النهائي للبرالية الديمقراطية والإنسان الأخير نجد بوتين يقود روسيا مجددا نحوى استعادة مجدها وهو بالتأكيد ليس من المؤمنين باللبرالية الأمريكية ولم يصبح رئيسا لروسيا بالطريقة ذاتها التي جاء بها أوباما إلى البيت الأبيض ونفس الكلام ينطبق على الصين، التنافس الأمريكي الروسي الجديد يجعلنا ندرك مجددا محورية القوة في العلاقات الدولية وأن القوة هي دافع كاف للصراع وظهور النزاعات الأساسية في العالم وليس شرطا أن ترتبط بالدين أو الهوية والحضارة كما توقع هنتينجتون في (صدام الحضارات) بالرغم من قيمة النظرية وأهمية فكرة الحضارات في تحليل السياسة العالمية.