قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل قلبه معلق بالمساجد ) إشارة إلى شدة تعلق قلبه بها وحبه للجلوس فيها، فهو متعلق القلب بالمسجد كلما خرج منه حتى يعود إليه، ويدل لهذا ما في رواية مالك في الموطأ، ومسلم في الصحيح، والترمذي في السنن: (ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه.) قال المناوي في فيض القدير عند شرح قوله (إذا خرج منه حتى يعود إليه). كنى به عن التردد إليه في جميع أوقات الصلاة فلا يصلي صلاة إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليعود فيصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه، فليس المراد دوام الجلوس فيه. اه قال تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37،36) النور. كل مسجد رفع وبني، إنما رفع وبني بإذن الله تعالى.. فالله تعالى هو الذي اختار مكان بناء هذا المسجد.. ولهذه الآية علاقة وثيقة بالآية السابقة لها وهي قوله تعالى:{ الله نور السموات والأرض} النور 35. فماذا يقول العلماء عن هذه العلاقة؟! يقولون: مصدر النور هو الله عز وجل.. فالله هو الذي أنار السموات والأرض.. فأين ينزل هذا النور؟ ينزل في بيوت الله جل وعلا.. إذن نور الله يتجلى في المساجد. على من ينزل هذا النور؟ ينزل على من ذكرهم الله تعالى في قوله:{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} النور 37 هذا عمن تعرض لنور الله، فماذا عمن لا يريد أن يتعرض لنور الله جل وعلا؟! وإجابة هذا السؤال تتضح في الآية التي تليها: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء} النور 39، والتي بعدها: {أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوق سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} النور 40. وقوله تعالى: {رِجَال} فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو داود، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) (سنن أبي داود). روى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) وقال (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن). وإن كان حضور المرأة إلى المسجد لسماع موعظة أو تعلم أمر دينها أفضل من صلاتها في بيتها حينئذ. ترك العمل باسم التفرغ للعبادة وليس معنى الحديث الدعوة إلى ملازمة المساجد والانقطاع للعبادة، إنما المقصود تعلق القلب بالمسجد مع أخذه بالأسباب وتوكله على الله في طلب رزقه. فلا يجوز للمسلم ترك العمل باسم التفرغ للعبادة ولو عمل في أقل الأعمال فهو خير من أن يسأل الناس كما قال صلى الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس) وأما أهل الصفة وبقاؤهم في المسجد على عهد رسول الله فإنهم كانوا فقراء(أو بالتعبير العصري لاجئين) ليس لهم أهل ولا مكان ولا عمل، وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون، فتارة يكونون عشرة وتارة يكونون ستين وسبعين، و جملتهم نحو أربعمائة من الصحابة. ولم تكن فرص العمل كثيرة في هذا الوقت فقد كانت دولة الإسلام ناشئة محاصرة ولذلك لما تهيأ لهم العمل تحركوا وتركوا المسجد، وأغنى الله الكثير من فضله. فضل المساجد على سائر الأماكن: روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).