كان الأجدر بالقيادة الإيرانية أن تنأى بنفسها عن الصراع الدائر بسوريا، وتقف على الحياد، لا هي مع النظام السوري الظالم، ولا هي مع الشعب المظلوم الثائر لأجل العزة والكرامة والحرية، إلا أن الطائفية المقيتة أعمت أعين زعماء إيران، وجعلتهم يصطفون إلى جانب النظام الظالم الذي يقتل شعبه ويدمر بلده بمختلف أنواع الأسلحة، والحجة التي تسوقها إيران في تبرير موقفها هي أن سوريا تتعرض لمؤامرة كونية هدفها إضعاف محور الممانعة والمقاومة في الشرق الأوسط، لصالح المشروع الأمريكي الصهيوني في الهيمنة والسيطرة. لقد قلنا في مقال سابق (جريدة الجزائر نيوز ? فيفري 2012) بأن القيادة الإيرانية متعلقة بالعديد من الأوهام التي تجعلها تثق بأن الضربة الأمريكية والغربية بعيدة الوقوع، من هذه الأوهام أن الغرب يعيش أزمة اقتصادية ومالية طاحنة، وأي مغامرة حربية يقوم بها الغرب الآن، هي بمثابة انتحار اقتصادي، كما أن أمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس، فقوتها في تراجع، واقتصادها ينهار، وهي ليست القوة الوحيدة في العالم، فهناك الصين وروسيا والهند، لذلك كله غادرت العراق، وتعمل على الانسحاب من أفغانستان في أواخر العام القادم، كما أنها قللت من التواجد العسكري في القارة الأوروبية، ضف إلى ذلك غرورها ? أي إيران - بقوتها المتنامية في وسط عربي ضعيف ومنهك، كل هذا في نظر القيادة الإيرانية دليل ضعف وتراجع للقوة والحضور الأمريكي في العالم. والسؤال الذي يطرح، هل وقوف إيران إلى جانب الأسد، ومده بالرجال والسلاح خيار صائب، سوف ينقذها، ولو إلى حين من الحرب القادمة ضدها؟ هناك مقولة إيرانية تؤكد أن الحرب ضد الغرب ستكون على تخوم دمشق، بمعنى آخر أن الشعب السوري سيكون بمثابة درع لحماية إيران من أي عدوان غربي، وما يحدث هذه الأيام هو التطبيق لهذه المقولة، فإيران لم تخف يوما طيلة عمر الثورة السورية دعمها للنظام الأسدي، حيث تمده بالمال والمقاتلين والسلاح، سواء بطريقة مباشرة عن طريق الحرس الثوري، أو بطريقة غير مباشرة عن طريق عملائها في لبنان والعراق (مقاتلو حزب الله والجيش المهدي وميليشيات بدر وعصائب الحق)، هذا من جهة. من جهة أخرى، أصبح الملف السوري عرضة للمساومة والمزايدة من طرف إيران بخصوص ملفها النووي للحصول على تنازلات من المجتمع الدولي، حيث أفادت آخر التقارير بأن القيادة الإيرانية قد وضعت قضية سوريا والبحرين على طاولة المفاوضات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لقد كان العرب ينظرون إلى إيران كنموذج للدولة الإسلامية الناجحة التي تدافع عن قضايا العرب والمسلمين، فهي تستحضر القضية الفلسطينية، وتولي أهمية كبيرة للمقدسات الإسلامية، وترافع لأجل المقهورين والمظلومين في العالم، وتهاجم قوى الاستكبار العالمي، ولم يكن يهم العرب في كل ذلك الانتماء المذهبي ولا العرقي لإيران، ما دام دينها هو الإسلام، المظلة الجامعة للمسلمين في العالم، كما أنهم اعتبروا حسن نصر الله لسنوات طويلة زعيما عربيا وقائدا إسلاميا يقود العرب والمسلمين إلى الانتصار في زمن الانكسار والهزيمة... كان الأجدر بهؤلاء أن يحافظوا على هذا الرصيد الشعبي المتنامي في وسط الغالبية السنية، وألا يفرطوا في هذه الثقة من أجل مصالح ضيقة، إلا أنهم للأسف لم يكونوا في مستوى هذه الثقة، ولا في مستوى المحبة والتقدير الممنوح لهم من طرف الشعوب المسلمة في مختلف أنحاء العالم كله.. ماذا كان رد إيران وحزب الله على هذا التقدير والمحبة؟ لقد نسى العرب التواطؤ الإيراني مع الغرب في احتلال العراق، وكان ظنهم بأن ذلك كان مجرد ردة فعل عابرة، فهي تريد الانتقام من صدام حسين الذي قاد حربا ضدها استمرت لسنوات طويلة، وبذلك تعيد الاعتبار للكرامة المجروحة، إلا أنّه مع مرور الوقت اكتشف العراقيون خاصة - والعرب بشكل عام - بأن إيران شريكة أمريكا في الاحتلال، خاصة بعد أن شن عملاؤها حربا طائفية ضد العرب السنة، وتعتبر اليوم بعد انسحاب الجيش الأمريكي الفاعل الرئيسي في العراق، حيث تتحكم في القرار السياسي والاقتصادي، ضف إلى ذلك انتشار عملتها النقدية ولغتها الفارسية بشكل مخيف.. كل ما كان يجري على الساحة العراقية كان تحت نظر أمريكا حيث كانت تغض الطرف عنه، مع أنها هي المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة بحكم القوانين الدولية باعتبارها “دولة احتلال"، ذلك لأنها تريد من إيران أن تغرق في الوحل العراقي أكثر وأكثر حتى تزيد كراهية العرب لهذا الكيان الذي أصبح يهدد العرب في حاضرهم ومستقبلهم. نعم، لقد صفح العرب عن إيران بسرعة، حيث وقفوا بجانب حزب الله في حربه ضد إسرائيل في تموز 2006، وتغلبوا على الكراهية التي غذتها الأفعال السلبية لإيران وعملائها في العراق، ونسوا جرائم جيش المهدي ومنظمة بدر، وكان حزب الله للأسف يسير على نفس الخط الإيراني مما يجري في العراق من خلال تصريحات قادته وإعلامه المرئي والمسموع، لأنهم - أي العرب - كانوا يعتبرون أن حزب الله يدافع عن مشروع أمة لا مشروع طائفة أو بلد بعينه. لا أعتقد أن العرب، اليوم، سيغفرون لإيران وحزب الله، خاصة بعد أن شاهدوا بأعينهم ما جلبوه على سوريا من قتل وخراب ودمار، فإيران التي وقفت بجانب الثورة التونسية والمصرية والليبية واليمنية، كما يبدو في الظاهر حيث طالبت رؤساء هذه الدول بأن يسمعوا شعوبهم واعتبرت ما يجري هو ثورة شعب ضد الظلم والديكتاتورية والطغيان.. ومقاومة للمشروع الغربي والأمريكي بالخصوص في المنطقة الشرق أوسطية لكن عندما هبت رياح الثورة إلى سوريا وطالب الشعب السوري بقليل من الحرية والعدالة والمساواة ونادى بصوت واحد “الشعب يريد إسقاط النظام" و«واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد"، ثارت ثائرة إيران واعتبرت ما يجري مؤامرة كونية ضد سوريا تستهدف من خلالها محور المقاومة والممانعة في المنطقة من حزب الله في لبنان مرورا بسوريا وبغداد إلى طهران، والسؤال المطروح هنا، لماذا هذه الازدواجية في التعامل مع الثورات العربية؟ لأن إيران تعتقد أن الأسد حليف استراتيجي، وقد زادت الروابط بينهما بسبب الانتماء المذهبي الواحد الشيعة / العلوية، كما أن الجواب نستشفه من تصريح أحد القادة الإيرانيين بأن سوريا هي المحافظة الخامسة والثلاثين، وإذا سقطت ستسقط طهران لا محالة، أي أن التحالف بين إيران وسوريا قد أدى إلى حد الارتباط في كيان واحد، وأي تهديد لطرف هو تهديد للطرف الآخر، والسؤال الآخر المطروح، لماذا يهتم الغرب بجماعات تتخذ من الرموز الإسلامية اسما وتقوم بالدفاع عن سوريا الشعب والتاريخ والحضارة، حيث يحاول شيطنتهم وتخويف العالم منهم والتشهير بهم، بأنهم جماعات جهادية متطرفة تابعة للقاعدة همها الوحيد نشر الفكر الظلامي والسيطرة على سوريا بعد سقوط الأسد، إلا أنه في المقابل يغض الطرف عن التدخل الشنيع لإيران وحزب الله و... في سوريا، وإن كان توجس الغرب من جبهة النصرة وشهداء اليرموك وصقور الشام.. هو من باب الشك والظن تغذيه التقارير الاستخباراتية العالمية التي لا تريد للثورة السورية الانتصار والنجاح، كذلك أن الظن لا يُسقط المسؤولية عن المجتمع الدولي في الجرائم التي ترتكب في حق المدنيين العزل، حيث وصل عدد القتلى إلى 70 ألف، بالإضافة إلى الآلاف من المفقودين والمسجونين واللاجئين والمشردين، ليس من تفسير لهذا الصمت الدولي تجاه الجرائم الأسدية التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية سوى تفسير واحد، وهو وجود إسرائيل وعدم وجود النفط. أما التدخل الإيراني، فهو يقين لا يرقى إلى الشك ولا يحتاج إلى دليل، وذلك بالتدخل المباشر، أو من طرف أعوانها من حزب الله إلى ميلشيات الصدر وعصائب الحق، حيث يُعلن ذلك صراحة في طهران أو لبنان، وتجد الغرب في كل مرة يغض الطرف عنه بطريقة مثيرة للريبة ومدعاة للشك، مع أنه لا يفوت أي فرصة إلا ويستحضر تلك الأسطوانة المشروخة التي تقول إن إيران هي مصدر الشرور والخطر الأكبر الذي يهدد العالم الحر، فكأن الغرب يريد من إيران أن تغرق في المستنقع السوري أكثر قبل الإجهاز عليها، إلا أن اللافت للنظر أن الثورة السورية هي بداية تأسيس الدولة السورية الجديدة، جمهورية ديمقراطية تقدس الحرية وتحترم التعدد الطائفي والعرقي واللغوي، وبداية سقوط الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فكما كانت الكويت بالنسبة لصدام حسين فخا، حيث كانت سببا كافيا للغرب من أجل أن يغزو العراق ويدمره ويجعله دولة طوائف متناحرة ومتحاربة، فإن سوريا فخ آخر لإيران، والتساؤل الذي يطرح: أيعقل أن يكتب للنظام الإيراني حياة جديدة في وسط مملوء بمشاعر العدائية والكراهية تجاهها؟ والشيء الثابت الآخر هو أن سقوط إيران سيؤدي إلى سقوط عملائه في لبنان والعراق، وكما أن هذا الأمر له ايجابيات متمثلة في التخلص من نظام طائفي عرقي، هدفه الوحيد هو زرع بذور الفتن والشقاق بين العرب، إلا أن هذا الأمر لا يخلو من سلبية حيث يصبح العرب مكشوفين أكثر أمام الأعداء، وتصبح إسرائيل القوة الوحيدة في الشرق الأوسط تسرح وتمرح كما تشاء، إلا أن الأمل يبقى في ثورات الأمل.. ثورات الربيع العربي، لعلها تؤسس لنموذج سياسي واقتصادي يحتذى. في الخلاصة، نقول إن الغرب يريد إطالة الأزمة في سوريا حتى تزيد عزلة إيران وتنهك قوتها وتستنزف قدراتها في الساحة السورية قبل إسدال الفصل الأخير من مسرحية الحب والكره بينهما، كما أنه يريد تدمير سوريا، قلب العروبة النابض، حماية لإسرائيل من أي خطر يهددها في المستقبل، وفي المقابل تريد إيران إطالة الصراع السوري أطول فترة ممكنة بغية تأخير الحرب القادمة ضدها إلى وقت آخر حتى تسترجع قواها وتلملم جراحاتها وتكمل مشروعها النووي، إذن الشيء المتفق عليه بين الغرب وإيران هو تدمير سوريا وتفكيكها وهدم نسيجها الاجتماعي، أما موقع العرب فيما يجري هو موقع المتفرج والباكي على الخراب، فالعرب للأسف في كل مرة عاجزون أمام أي امتحان يواجههم في قضايا وجودهم وحدودهم. نعم، لقد تدمرت سوريا وهدمت مؤسساتها وبنيتها التحتية، إلا أن ثورتها المباركة أسقطت العديد من الأوهام التي صاحبت العقل العربي للعشرات من السنين.. أسقطت أوهام المقاومة والممانعة، وأسقطت من يتشدقون بها ليلا ونهاراً من حزب الله في لبنان إلى بشار الأسد في دمشق إلى ولاية الفقيه في طهران، كما أنها أسقطت أوهام الوحدة العربية ( حزب البعث العربي الاشتراكي وشعاره أمة عربية واحدة ) لأن معركة الوحدة تحتاج إلى رجال رحماء على شعوبهم، محبين لأوطانهم، وأشداء على أعدائهم، لا عصابات تمارس القتل والتدمير بغير حدود، كما بينت أن الحكام العرب كلهم من طينة واحدة لا فرق في ذلك بين معتدل خانع ولا بين مقاوم ممانع كما يسوق هو عن نفسه.