الجار ثم الدّار ، عبارة نردِّدها غالباً في مجتمعاتنا عندما نتحدَّث عن العلاقة بين الجيران، تأكيداً منّا على أهميَّة هذه العلاقة الإنسانيَّة بين البشر. وهذه العبارة قالتها السيِّدة فاطمة الزّهراء (ع) في معرض جوابها عن سؤال ولدها الإمام الحسن (ع)، الذي أمضى ليلته في مراقبتها وهي تدعو للجيران، ولم يسمعها تدعو لنفسها قطّ، فبادرها بالسّؤال قائلاً: لمَ لمْ تدعي لنفسك يا أمَّاه كما دعيت لغيرك؟ ، فكان الجواب: يا بنيّ، الجار ثم الدّار . تخفي هذه العبارة الكثير من المعاني والمفاهيم، بل الدّروس الّتي علينا أن نتوقَّف عندها ونتعلّمها، وربما الأسئلة الّتي تُطرح في هذا السّياق: لماذا الجار قبل الدّار؟ لماذا هذه المنزلة التي قدَّمت الجار على الدّار؟ وأيّ قيمة لعلاقة الجيرة في المجتمعات الإنسانيَّة؟ ما هو حقّ الجار؟ وماذا بقي من هذه العلاقة في هذا الزّمن الّذي بات يعيش كلّ فرد فيه في عالمه الخاصّ، الَّذي لا يتعدّى حدود باب الدّار، وربما حدود غرفته، منغمساً في عالم التواصل الافتراضي والتقنيات الحديثة. الجار في القرآن والسنَّة يؤكّد سماحة الشّيخ زهير قوصان اهتمام الإسلام بمسألة الجوار، انطلاقاً من كتاب الله عزَّ وجلَّ، الّذي أوصى فيه الباري بالإحسان إلى الجار: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}[النساء: 36]، ويوضح بالقول: أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الجار، كما أمرنا بالإحسان إلى الوالدين، وذوي القربى، واليتامى، والمساكين، تأكيداً لأهميَّة العلاقة، سواء كانت تربطنا بالجار قرابة، أو كان الجار الجنب ، الَّذي يجاورنا في سفرنا وحياتنا. والإحسان عنوان واسع ينظّم علاقتنا مع الجيران، سواء لجهة التّصرّف اللائق معهم، أو التّعاطف معهم، ومحاولة حلّ مشاكلهم، والمساهمة في قضاء حوائجهم . ويشير الشّيخ قوصان إلى أنَّ الاهتمام بمسألة الجوار جاء من كثرة وصايا الرّسول الأكرم محمّد(ص)، ومنها: حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمّه ، ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتّى ظننت أنّه سيورّثه، فمن قصَّر في حقّه عداوةً أو بخلاً، فهو آثم ، الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق، وجار له حقّان، وجار له حقّ واحد . وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، أنّه قال: اللَّه اللَّه في جيرانكم، فإنّهم وصيّة نبيّكم . العلاقات اليوم بين الجيران تتحدّث أمان بكري عن طبيعة العلاقات اليوم بين الجيران، والَّتي باتت شبه معدومة، وتقول: هناك نوعان من الجيران: الجيّدون وغير الجيّدين. وفي كلا الحالتين، يعيش كلّ إنسان في بيته، ويبقى السَّلام عند اللّقاء هو العنوان الأبرز للعلاقة . من جهتها، تعتبر الأستادة دنيا. ك ، أنَّ العالم الافتراضي أثَّر كثيراً في العلاقات الاجتماعيَّة والتّواصل المباشر بين الأهل والأقارب، وحتى الجيران، الَّذين يقتصر التّواصل فيما بينهم على التَّحادث عبر الواتس آب، بما في ذلك في المناسبات والأعياد. وتضيف: المرأة العاملة عادةً لا توسّع علاقاتها مع الجيران، حتى تستطيع القيام بمختلف الأمور المطلوبة منها في العمل والمنزل. ويجب أن تبقى العلاقة الطيّبة هي الحاكمة للعلاقة مع الجيران، بمعزل عن التزاور اليومي، لأنّه من الممكن في أيّ وقت من الأوقات، أن نحتاج إليهم أو يحتاجوا إلينا . تؤكّد السيّدة نوال دعبول أهميّة العلاقة الطيّبة بالجار، وتقول: رسولنا الكريم أوصانا بالجار، والمثل يقول: جارك القريب ولا خيّك البعيد ، وهذا يعني أنَّ الجار هو إنسان مهمّ في حياتنا، ولكن للأسف، في هذه الأيّام، كلّ إنسان مشغول بحياته وبمشاكله، وليس لديه الوقت الكافي للقيام بواجباته تجاه جيرانه، وبخاصّة أنَّ ضغوطات الحياة كثيرة وصعبة، كلّ هذه الأمور تجعلنا نبتعد عن بعضنا البعض . أمّا السيِّدة رجاء خليل، فتشدِّد على أهميّة بناء علاقة طيّبة مع كلّ النّاس، سواء الجار القريب أو البعيد، لأنَّ المهمَّ في رأيها، أن تبقى حدود اللّباقة والإنسانيَّة موجودة بين النّاس، لأنَّ هذا الواقع هو الّذي يعبّر عن العلاقة الحقيقيَّة بينهم. وتضيف: بحكم العمل الطّاغي والمسؤوليّات الكبيرة، الوقت دائماً في عجل، ولكنّنا نستطيع دائماً تخصيص وقت، ولو قصير، للتّواصل مع الجيران، والاطمئنان على أحوالهم العامَّة . بدورها، ترى الكاتبة إلهام غرابي، أنَّ إيقاع الحياة الصَّعب، والظّروف الّتي نعيشها، أثَّرت في علاقاتنا كثيراً، سواء بين الأخوة أو الأقارب، فكيف الأمر بالجار؟ وتضيف: اليوم، يكتفي الإنسان بعبارة صباح الخير يا جار ، رغم أنَّ الجار قبل الدّار، كما ورد في الأحاديث. وتبقى الظّروف الاجتماعيّة والحالة المعيشيّة الصّعبة التي نعيشها، هي التي تتحكَّم بنا، فلم يعد هناك وقت للزيارات والتواصل المباشر . لماذا التّدهور في العلاقة؟ تتحدَّث الإعلامية والناشطة الاجتماعية، الأستاذة ليلى شمس الدّين، عن العلاقة بين الجيران وسبب تراجعها، مشيرةً إلى جملة من المتغيّرات التي طرأت على هذه العلاقة منذ ما يقارب الخمسين عاماً، عندما بدأ نمط الحياة يتغيَّر تدريجيّاً، وتوضح: كان الأهل والأجداد يعيشون جنباً إلى جنب في البيت نفسه، ثم انتقلوا للعيش في بيوت منفصلة، ولكن متقاربة في الأحياء نفسها. وبفعل النّزوح من الأرياف إلى المدن، انتقلوا إلى العيش في المدن في أحياء متقاربة ومتجاورة، للحفاظ على الرّابط العائلي، وتقديراً منهم لأهميّة التّجاور فيما بينهم، ولكن مع التمدّد العمرانيّ، وغلاء أسعار العقارات، أصبح هناك استحالة لإيجاد مساكن متقاربة بين الأقارب، وبالتّالي، صار اجتماعهم في محيط جغرافيّ واحد صعباً، واليوم، أصبح هناك أبنية فيها الكثير من الطّوابق والشّقق، التي قد يتجاوز عددها العشرين، كحدٍّ وسطيّ . إنَّ الجفاء بين الجيران يعبّر عن وجود نقص في سلوكنا وتربيتنا وثقافتنا الإسلاميَّة وأمام هذا العدد الكبير من الشِّقق والجيران، ترى شمس الدّين أنَّ هناك صعوبةً لبناء علاقة مع هذا العدد الكبير من الأشخاص الّذين لم نخترهم، ولا نعرفهم، فضلاً عن أنَّ نمط الحياة السَّريع والضَّاغط نظَّم حياتنا بطريقةٍ لا تسمح بلقاء الأهل إلا في عطلة نهاية الأسبوع، فكيف بالجار؟! . وتضيف: غالباً، يكون التّواصل بين الجيران بسبب المشاكل الّتي تقع بسبب الأقسام المشتركة للبناء، ولا سيما تلك المتعلّقة بالمياه والكهرباء والمصعد وما إلى ذلك، فيكون اللّقاء مع الجيران لمناقشة هذه المشاكل وإيجاد الحلول لها . لا مبرّر للقطيعة بين الجيران يضع سماحة الشيخ قوصان واقع العلاقات بين الجيران في إطار الانعكاسات السلبيّة للحياة التي نعيشها اليوم، مؤكّداً أن لا مبرّر للقطيعة بحجَّة انشغالات الحياة وكثرة مشاكلها، مشيراً إلى أنَّ هذا التّعاطي بين الجيران اليوم، يعبِّر عن وجود نقص في سلوكنا وتربيتنا وثقافتنا الإسلاميَّة، وحتى الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. ويعتبر الشيخ قوصان أنَّ العلاقة بين الجيران، وقبل أن تكون إسلاميَّة، هي إنسانيَّة، بفعل حاجة الإنسان إلى التَّلاقي مع أخيه الإنسان، أينما التقاه في هذه الحياة، مشيراً إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للمجتمع أن يعيش أفراده التَّماسك فيما بينهم، من خلال انفتاحهم على بعضهم البعض، والتَّفاعل فيما بينهم لقضاء الحوائج وحلّ المشاكل العالقة. تعزيز حسن الجوار يساهم في بناء كتلة مترابطة تمثّل القوّة في المجتمع الإنساني ويضيف سماحته: عندما تحصل القطيعة بين الجيران، فإنَّ اهتمامهم بأمور بعضهم البعض سوف يضمحلّ، وهذا يتنافى مع قول رسول الله محمّد(ص): من لم يهتمّ بشؤون المسلمين فليس بمسلم ، لأنَّ الانقطاع والتّباعد ينهي هذه الرّوحيَّة التي دعا إليها الإسلام، من خلال علاقة حسن الجوار الّتي تفرض التواصل والتعاون فيما بيننا . ويختم بالقول: يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيش في المجتمع ككتلة واحدة مترابطة متراصّة متعاونة متكافلة متراحمة، وتعزيز حسن الجوار يساهم في بناء كتلة مترابطة، تمثّل القوَّة في المجتمع الإنساني والإسلامي، لمواجهة كلّ التّحدّيات الّتي تواجهنا في هذه الحياة على مختلف الصّعد . كيف نتعامل مع الجيران؟ على الرّغم من هذا الواقع، تشدّد شمس الدّين على أهميَّة تنظيم العلاقة مع الجيران، لجهة الحقوق والواجبات، والّتي وضعتها ضمن إطار حقوق الجيرة ، ونلخّصها بما يلي: 1. المبادرة إلى السّلام. 2. السّؤال عن أحوال الجار. 3. التبسّم في وجهه. 4. وصله. 5. معاودته في مرضه. 6. مواساته في أحزانه. 7. مشاركته أفراحه. 8. عدم أذيّته. 9. عدم إزعاجه. علينا أن نربّي أولادنا على التّواصل الإيجابي مع الآخرين، حتى ننمّي النّزعة الإنسانيّة لديهم وتؤكّد السيِّدة شمس الدّين ضرورة أن لا نتخلَّى عن العلاقة مع الجار، سواء كان صالحاً أو طالحاً، من خلال الأعمال المشتركة الّتي يمكن القيام بها، وتعزّز العلاقات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة فيما بيننا، كلّ حسب وقته وانشغالاته، لأنَّ الجار هو الإنسان الأقرب إلينا، وبخاصّة أننا معرَّضون في أيّ وقت من الأوقات للوقوع في مشاكل، كالسّرقة والحريق وما إلى ذلك، ولا يمكن لأحد أن يساعدنا حينها إلا الجار. وتختم بالقول: علينا أن نربّي أنفسنا وأولادنا على التّواصل الإيجابي مع الآخرين، ولا سيّما الجيران، حتى ننمّي النزعة الإنسانيّة التي تجعلنا نرتقي إلى الأعلى، والجار هو أكبر محلّ للاختبار في هذا الموقع، وليس الصَّديق أو الأهل . وفي الختام، أعزّائي القرّاء، لا يمكن لأحد أن ينكر أهميَّة العلاقات الإنسانيّة الّتي تجمع الجيران بعضهم ببعض، في ضوء ما جاء في القرآن الكريم والسّيرة النّبويّة وأحاديث الأئمّة. وعلى الرّغم من الوتيرة السّريعة لحياتنا، فعلينا أن نبقي آفاق التّواصل مفتوحةً مع الجار، ولو من باب حقّه علينا، حتى يبقى التّواصل مع الجار هو العنوان الأساس لقيام العلاقات الإنسانيّة السّامية في مجتمعنا.