ابتسامات بريئة تخفي وراءها اليتم والمصير المجهول العلامة الكاملة للأمهات الحاضنات عبر مراكز الأيتام يتنسم المرء في دار الأيتام أو الطفولة المسعفة عبير الإنسانية حيث تتواجد براعم بريئة شاءت الأقدار أن تحرم من رعاية الأب وحنان الأم، ويتخلوا عنهم وهم في أمس الحاجة إلى صدر حنون، حيث أن أيام الطفولة تعد أسعد أيام الإنسان، فمن العادة أن يفتح الطفل عينيه ومن حوله أفراد عائلته الذين يغمرونه بالعطف والحنان، ويحيطونه بما يجب حتى ينمو في بيئة متكاملة، غير أن واقع البراءة المسعفة يختلف عن ذلك حيث بمجرد أن يروا النور حتى يجدوا أنفسهم في مراكز تكفلهم بعد أن وضعوا قسرا من رحم لم يرغب في حملهم أصلا. حسيبة موزاوي توجهنا إلى أحد المراكز للكشف عن المعاناة الاجتماعية والنفسية التقينا خلالها بنساء اخترن مهنة الأم البديلة عن حب ووعي، وبأطفال تلمع عيونهم البريئة بفرحة الإحساس بأن هناك من يحبهم، فنظرة الحزن التي يرسمها شعورهم بأنهم محرومون من الحياة الطبيعية وسط آبائهم وأمهاتهم، أو ملفوظون من أقاربهم الذين ضاقوا بمسؤولية التكفل بهم مدى الحياة. وخلال تواجدنا بهذا المركز أوضحت لنا مديرة المركز أسباب وجود الأطفال في الدار، مشيرة إلى أن اليتم ليس السبب الوحيد لوجودهم هنا، فهناك مجهولو النسب الذين ترسلهم وزارة التضامن، وحالات الطلاق والنزاعات القضائية وغير ذلك من الحالات، متأسفة على الأطفال الكثر الذين يعيشون في دار الطفولة المسعفة بسبب التفكك الأسري، حيث ينفصل الأبوان، ويعيش كل منهما حياة أخرى، ويرفض زوج الأم أو زوجة الأب وجود طفل بينهما وهذا الأمر أصعب بكثير من اليتم، فالأهالي موجودون وينكرون أبناءهم، لكن الطفل اليتيم على عكس ذلك يتأقلم مع الدار ويشعر أنها كل شيء له في الحياة. وفي هذا الصدد أبرزت لنا المديرة أنه رغم توفير كل المتطلبات من حيث اللباس، الأكل، حتى النواحي الترفيهية إلا أن تلك البراعم تفتقد للحب والحنان ومهما أعطيناهم فلن يعوضهم حب وحنان الأم الحقيقية. الحاضنات... منبع للدفء والحنان التقينا بالأم البديلة السيدة (خيرة) في غرفة الطعام، كانت منهمكة بإطعام من أسمتهم (بفلذات كبدها) تقوم بدورها كأم منذ 30 عاما، حيث أنها ربت أجيالا، وأن سعادتها لا توصف حين يأتي من ربتهم بعد أن يصيروا رجالا ونساء للسؤال عنها، مفصحة لنا (أعامل الأطفال مثل أبنائي تماما واتقي الله في الأيتام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بهم ولذلك فكل حياتي ووقتي لهم). إما المربية فلة فحدثتنا عن مأساة الطفلتين اللتين لم تتأقلما حتى اللحظة مع وضعهما الجديد، وتحلمان وتنتظران اليوم الذي تعودان فيه إلى أحضان ودفء عائلتهما لكن تبقى أحلامهما حبيسة مخيلتهما، شاركتنا سامية الحديث، وهي تبلغ من العمر 44 سنة، إنها تعتني بالأطفال منذ حوالي 20 سنة أو أكثر ورغم صغر سنها آنذاك إلا أنها كانت تتناوب السهر مع المربيات موضحة لنا (لا أشعر بأي اشمئزاز عندما أغير للأطفال فحب الأطفال الضعفاء فطرة لا يحرم منها إنسان سوى ذوي القلوب المتحجرة). وبخصوص كفالة الأطفال بمركز الأبيار، أوضحت لنا الأخصائية النفسانية أن هذه الأخيرة لها شروط، فالراغبون في التكفل لابد أن يلجأوا إلى المصلحة الاجتماعية بطلب من المساعدة الاجتماعية على تكوين ملف، ليدفع بمديرية النشاط الاجتماعي التابعة لهم، ثم يسجل طلبهم رسميا وبعدها يحول الملف إلى دار الطفولة المسعفة. أبواب المراكز مفتوحة لكفالة الأطفال أشارت إلى أنه تبدأ حينها عملية ملاحظة الدوافع ودراسة النواحي السلوكية والنفسية للمتكفلين، حيث يخصص لهم لقاء مع أخصائي نفساني، لا تكون هناك مقابلة إكلينيكية وإنما جلسات يرى فيها المختص الدوافع النفسية للراغبين في التكفل وما مدى نضج الفكرة، قائلة إن الرغبة في التكفل ليست الأهم، ولكن دراسة مدى نضج هذه الفكرة من كل الجوانب، وهنا الأخصائي النفساني خلال الحوار الذي يجرى بينه وبين المتكفلين، يستطيع التوصل إلى إعطاء الموافقة للتكفل أو يقر بعدم الموافقة بعد المقابلة النفسية. هذا وأضافت ذات المتحدثة أنه بعد الموافقة، يتم التوجه إلى مرحلة التحقيق الاجتماعي أي زيارة منزل الأسرة المتكفلة كتكملة للمقابلة النفسية لملاحظة الجو الذي سيعيش فيه الطفل، والسبب في زيارة بيت الأسر الراغبة في التكفل والتنقل إليها هو أبسط إجراء نلجأ إليه، لكي يعيش هذا الطفل في الهدوء والشعور بحرارة البيت وحنان أفراده، فهناك أمور تظهر من خلال التنقل لهذه الزيارة، لتكون مثل المقابلة التي تمت في المكتب، ليتم دراسة الملف ليخرج بالموافقة، وإذا انعدمت يتم تأجيل الطلب لتسوية وضعية الأسر من كل الجوانب، مشيرة في ذات النقطة إلى أن الأخصائيين لا يضغطون عليهم وإنما يتم إعطاؤهم الوقت لتسوية حالتهم الاجتماعية. بعد أن يلقى طلب التكفل الإيجاب، يتم إعطاء الموافقة النهائية للأسر الكفيلة من قبل الأعضاء، حيث يتم تبليغ العائلات، وهنا تبدأ مرحلة انتقاء الطفل بعدما يتم الأخصائي النفسي تعيين الطفل وصورته الذهنية، مشيرة إلى أن عملية الانتقاء تتطلب صور المتكفلين لتسهيل انتقاء الطفل على حسب لون البشرة، حتى يدمج الطفل في الأسرة بشكل غير ملفت لتسهيل عملية الإدماج، ولا يواجه مشكل اختلاف شكله مع والديه، وهذا ما نسعى للعمل عليه على الرغم أنه سيعرف الحقيقة في يوم من الأيام. كما أشارت الأخصائية النفسية، إلى أن التهيئة السيكولوجية النفسية تبدأ من الصغر، أي منذ اللحظة التي يؤخذ إلى بيت العائلة المتكفلة، في الوهلة الأولى على الأم أن تتحدث مع طفلها وعمره ثلاثة أشهر، تقول له (أنا أمك ولكن لست الحقيقية، ولم أحملك في بطني ولكن حملتك بقلبي، أنا وأبوك)، وهنا الطفل نلقي في ذهنه الحقيقة، ففي المراحل الأولى بعد الولادة يكون ذهن الطفل مجردا، ولكن إن غرسنا في ذهنه فكرة تبقى راسخة، ثم يصل إلى مرحلة الملموس أي يكون على دراية بما يحصل، فحين ترى امرأة حامل سواء داخل البيت أو خارجه فتقول الأم الحاضنة (إني لم استطع أن أحملك في بطني مثل هذه المرأة، وتكرر له هذه المقولة كلما صادفت امرأة حاملا، أي تغرسها في ذهنه). ضرورة كشف الحقيقة للطفل المتبني هذا وأضافت أن الأسرة المتكفلة لا يجب أن تكذب على الطفل وتقول له إن أمه البيولوجية قد توفيت، وهي في الحقيقة على قيد الحياة، فالطفل عندما يصل إلى سن 18 ويطرح السؤال على والديه أصله ونسبه الحقيقي فما عليهم سوى مساندته والبحث معه عن والديه الحقيقيين، خاصة أن الفكرة قد تخزنت في اللاشعور منذ كان سنه ثلاثة أشهر، فأغلب المتكفلين الذين لا يلجأون إلى المركز يعني يأخذونهم من عند أهاليهم يعز عليهم قول الحقيقة، حيث تكون ثقيلة على لسانهم من كثرة المحبة وخوفا من عودتهم إلى أهاليهم، ولكن هذا خطأ ونحن ننصح المتكفلين ألا يقعوا في مثل هذا الخطأ، لأنه يعود عليهم بالسلب في المستقبل، فالطفل يعرف الحقيقة وإذا عرفها في مرحلة متأخرة وخاصة في سن المراهقة تتكون لديه أزمة هوية لتولد هذه الأزمة عنصرين صعبين عليه، وهنا يفقد الثقة في والديه ويصبح متمردا، يمتنع عن الدراسة وربما يهرب من البيت، ونحن كأخصائيين نريد ألا تصل هذه الأمور إلى هذا الحد، ولو يستدركون الأمور من البداية ويقولون لهم الحقيقة سيكون الأمر أفضل، فالناحية الاجتماعية سهلة ولكن الناحية النفسية صعبة وعواقبها وخيمة، فنجاح التربية والتكفل يتوقف على هذه الحقيقة، وبالتالي عدم الكذب على المتبنى. وبعد مرافقتنا لقاطني الدار جاءت لحظة مغادرتنا المكان فقد كان موقفا يحز في النفس كثيرا فتلك البراعم البريئة، وتلك النظرة أو تلك النظرات التي تغص بالعبارات الحزينة، حتى نحن لم نتمالك أنفسنا ولم نستطع حبس دموعنا بمجرد رؤية تلك البراعم اليتيمة التي لاذنب لها، عيون ونظرات أكثرها وضوحا (خذوني معكم) صرخة تبكي الحجر، فهل من مجيب، حيرة كلها تساؤل عن مستقبل هؤلاء الأبرياء.