بقلم: محمد بونيل حدث ذلك منذ ما يزيد عن الأربعين سنة، لم يكن يعلم يومها أن الحب سيطرق باب قلبه، نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء، بعد جولة بحث في كبريات شوارع العاصمة، استغرقت لساعات ولحظات طوال، كان فيها الشاب الوسيم المصور الفوتوغرافي يبحث من خلالها عند الباعة المتخصصين في بيع آلات التصوير ومستلزماتها عن معدات خاصة بالتصوير الفوتوغرافي، لقد أخذ منه الأمر جهدا كبيرا ونال منه، إذ كان يفعل ذلك في مجمل تنقلاته داخل المدينة الكبيرة سيرا على قدميه أضف إلى ذلك حقيبة الظهر التي تحمل معدات التصوير، هي الأخرى نالت منه، كما نال منه التعب هو الآخر، فبعد هذا وذاك، خلد في الأخير إلى قسط من الراحة فتوجه إلى وسط المدينة قاصدا بذلك إحدى المقاهي التي اعتاد من حين لآخر النزول إليها، حيث تتواجد بالهواء الطلق القريب منها، طاولات مستديرة في الشكل تحيط على جوانبها كراسٍ كل ذلك كان موزعا بانتظام على فضاء تلك الرقعة الصغيرة وعلى أطراف محيطها تتوزع شجيرات جميلة متوسطة الحجم آخذة بذلك ديكورا رائعا يسر الناظرين وتزين في مجملها فضاء ذلك المكان، مجازا وكأنها توحي إلى زائريها من معتاديها بالسماع والاستمتاع إلى المقطع التاسع من السيمفونية الشهيرة لصاحبها (بيتهوفن).. اختار له مكانا يجلس فيه بين جموع الزبائن الجالسين من حواليه، بعد حين جاءه النادل يسأله عما يمكن تقديم له من خدمات، فطلب منه الشاب الوسيم (المصور الفوتوغرافي) أن يحضر له فنجان قهوة (إسبريسو) هذه الأخيرة اعتاد على شربها في ذلك الفضاء لتلك المقهى الساحرة والجذابة، حيث نوعية القهوة فيها تتميز بجودة مذاقها العالي وكذلك غلاء ثمنها على حد سواء، كان بحوزته مجلة متخصصة في الصورة يطالع عليها حينا وحينا آخر يرتشف فنجان قهوته ويمد من خلال ذلك ببصره إلى حقل رؤية قريب فمتوسط وأحينا يضبطه على امتداد عميق و كان يفعل ذلك بانتظام ويعيد فنجان القهوة على مكانه من الطاولة التي كان يشغلها ماسكا إياه بيمينه والمجلة بشماله، ثم يسترسل في التأمل والتدبر، فالتفكير العميق، حول شريط الحياة الذي يعرض أمام عينيه وباستمرار دون توقف حاملا في طياته مقاطع ومشاهد متنوعة أصحابها والفاعلون فيها هم من مختلف أطياف المجتمع، المنظر يبدو طريفا وكأنه فانتازيا في البعد الخامس للأشياء، كما تجذب بنظره نحوها كل تلك الصور والمشاهد التي هي من صنع الحياة وكأنه جالس في إحدى قاعات العرض يشاهد بذلك أشرطة وثائقية هي الأخرى من نسج الحقيقة والواقع المعيشي وهو غارق في بحر أفكاره، فجأة يطرق باب مسمعه صوت رجل امتثل واقفا بجانبه، رفع الشاب رأسه ونظر إليه، فإذا هو بشيخ واضع قبعة جميلة تقيه من حر أشعة الشمس الفصلية (الصيف) ومرتديا نظارات تمكنه من رؤية الأشياء عن بعد، إذ يكتسيها الطابع الفني كالتي أصبح جموع الفنانين والفنانات وشباب اليوم وحتى السيدات والأوانس أصبحن يرتدينها بدافع الحاجة الماسة إليها وكذلك مواكبة بذلك لآخر صيحات الموضة المدوية عبر العالم، استأذن ذاك الرجل السبعيني الذي بدت عليه ملامح الكبر وألقى بذلك التحية على الشاب الوسيم (صباح الخير، هل بإمكاني الجلوس على هذا الكرسي بالقرب منك..؟)، رد عليه الشاب الوسيم (صباح الخير سيدي، نعم أكيد بإمكانك الجلوس والاستمتاع بالمنظر الجميل هنا، دون أي شك في ذلك...). * رائحة الوطن تقدم النادل نحوهما، فطلب الرجل السبعيني منه أن يحضر له قهوة من النوعية الجيدة فاقترح عليه هذا الأخير فنجان قهوة من مثل ما تناوله الشاب الجالس بالقرب منه، بعد مدة زمنية كانت بالقصيرة أحضر له فنجان قهوة (إسبريسو)، وضع بداخلها أقراصا صغيرة من الدواء الخاص بمعالجة مرضى السكري، وقتها سأله الشاب إن كان الأمر كذلك؟ فأجابه الشيخ أي (نعم أنا مصاب بالسكري..)، فلاطفه حينها الشاب الوسيم بكلمات متمنيا له الشفاء ودوام الصحة والعافية، فتبسم الرجل السبعيني للطف تلك الكلمات الصادرة من ذاك الشاب الوسيم وشكره على ذلك، وهو ينظر إلى أجواء المكان إذ ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة والحيرة، فقال مخاطبا الشاب الوسيم وفي نفس الوقت أراد من خلال ذلك أن يفتح موضوعا للدردشة معه (كم تغير وجه المدينة وكذلك إني أرى وجوها جديدة من الناس تتوافد عليها، ما كنت أراها من قبل... !) فسأله الشاب (سيدي، يبدو واضحا من كلامك أنك لم تزر العاصمة منذ مدة...؟)، فأجابه الشيخ السبعيني (وهو كذلك صديقي، فأنا حاليا أقطن مع عائلتي في بلاد المهجر بفرنسا منذ فترة طويلة، لقد قصرت في زيارتي للعاصمة، كان السبب في ذلك راجع لدواعٍ عائلية طرأت لي هناك بفرنسا.. ومن دون مقدمات أخذ يعرف بشخصه المتواضع لذلك الشاب على أنه إطار متقاعد من إحدى المؤسسات الوطنية المتخصصة في الطاقة، من جانبه قدم الشاب الوسيم بشخصه على أنه فنان مصور فوتوغرافي، ويقوم من حين لآخر بتغطية من خلال عدسة كاميرة آلة التصوير التي يشغل عليها، في مجمل فضاءات العرض الفني بشكل عام والأخرى المتعلقة بالفن الثامن، فن الصورة الفوتوغرافية بشكل خاص، عند سماع الرجل السبعيني لذلك زاد من سروره وفرحته، كما أعجب كثيرا بالأسلوب الجميل في الحوار مع الشاب الوسيم وأخذ يصغي إليه ولا يقاطعه إلى حين توقفه من البوح بالكلام، حينها أخذ دوره ونصيبه من الكلام وكأن به تذكر بذلك أمرا ما، وهو كذلك فأخبره الرجل السبعيني أن زوجته هي الأخرى تمارس الفن منذ سنوات عدة، هي فنانة تشكيلية، كما سبق لها وأن شاركت في العديد من المعارض والصالونات المتخصصة في الفنون التشكيلية هنا في العاصمة وخارجها في مدينة أخرى، بعضها فردية وأخرى جماعية تحتسب لها في سيرتها الفنية وأخبره أيضا أنها لم تتلق التكوين في مدارس - الفنون الجميلة- على العكس تماما من ذلك إذ هي عصامية، فواصل حديثه مع الشاب المصور الفوتوغرافي، فحبها للفن وموهبتها التي صقلتها ونمت معها منذ الصغر وتجاربها في الحياة أهلها لأن تكون ما هي عليه اليوم، فنانة تشكيلية قد أثبتت جدارتها... اطمأن الرجل السبعيني لذلك الشاب الفوتوغرافي وانطلق حينها يحكي له بكل انفتاح عن شؤونه و بدايات حياته وساعة لقائه في اليوم الموعود بفارسة أحلامه حبيبته وزوجته وأم أبنائه، التي تعرف عليها من خلال أول معرض جماعي لها شاركت فيه، حيث أقيم في مدينتها المتواجدة بجوار العاصمة، إذ كانت تقطن فيها رفقة والديها في مرحلة عزوبيتها، كما تملك لها حاليا منزلا فيها، اندرجت مشاركتها ضمن فعاليات ونشاطات ثقافية إذ حدث ذلك منذ ما يزيد عن الأربعين سنة التي خلت، عودة إلى الرجل السبعيني زوج الفنانة التشكيلية كان حديثه مبنيا على الاحترام المتبادل للآخر، دون الخدش في خصوصيات ذلك الشاب الوسيم الذي أنصت له مصغيا، قال الرجل السبعيني (منذ اللقاء الأول بها أصابت سهام الحب قلب كل منا، فتكلل ذلك بلقاء ثانٍ، وها نحن اليوم - زوجان _ رزقنا بأبناء هؤلاء بدورهم تزوجوا وأنجبوا لنا أحفادا وحفيدات بعضهم من يشتغل في أوروبا، تحديدا في فرنسا وبريطانيا وفيه من هو مهاجر مقيم بأمريكا،..)، حينها وهو يتحدث اقترب من ذلك المجلس الذي جمع بينهما، أحدهم إذ بدى عليه من أقارب ذلك الرجل السبعيني فسلم عليه وألقى بالتحية والمصافحة لذلك الشاب المصور الفوتوغرافي، حتى لا يحرج هذا الأخير في المجلس بين القريبين وقبل الانصراف استأذنهما، فأشار إليه الرجل السبعيني أن يتمهل لبعض الشيء كي يعطيه أرقام هاتفه، المحلي ثم الدولي هناك بفرنسا، فكان له ذلك ومن جانبه أعطاه الشاب المصور الفوتوغرافي رقم هاتف جواله فدونه عنده، قبل أن يغادر هذا الأخير مجلسه أي الشاب المصور الفوتوغرافي تواعده الرجل السبعيني بلقاء يجمع بينهما وأن يكون ذلك في أقرب فرصة سانحة له.. * أربعون سنة من الحب مرت الأيام والأسابيع فإذا بهاتف ذلك الشاب المصور الفوتوغرافي يرن، على الخط بدا اسم ذلك الرجل السبعيني، أخبره بأن زوجته الفنانة التشكيلية ستقيم معرض لمجموعة من لوحاتها في العاصمة وطلب منه إذا كان بإمكانه أن يستعين بخدماته في مجال التصوير الفوتوغرافي وشرح له الفكرة العامة لذلك بأن تقتصر مهمته على (التغطية الفوتوغرافية) لمجريات وأحداث المعرض ووعده نظير خدماته المقدمة بأن يدفع له جميع مستحقاته ريثما ينتهي من المهام المنوطة به خلال فعاليات المعرض التشكيلي، أعجب الشاب المصور الفوتوغرافي بالعرض المقدم له ووافق عليه، لكن شريطة أن يكون ذلك خدمة بلا أي مقابل، معللا ذلك بصداقة الفنانين فيما بينهم معتبرا إياها (عملة نادرة) لا يجب الإخلال بها، كعادته جهز الشاب المصور الفوتوغرافي جميع معداته وأجهزته الفوتوغرافية ولواحقها... ليس بعيدا عن مكان المعرض ودقائق تفصل عن موعد افتتاحه، اقتنى من بائع الورد باقة جميلة من الورود الملونة، عند ولوجه إلى بهو المعرض ألقى بالتحية على الرجل السبعيني تقرب هذا الأخير من الشاب المصور وعانقه وهو بذلك مبتسما لم تمر إلا ثوانٍ قليلة حتى عرفه بزوجته الفنانة التشكيلية التي سبق وأن حدثه عنها، رحبت به وشكرته على مجيئه وعلى لطفه في إحضاره لها باقة من الورد الجميلة، كان ذلك الإحساس والشعور الرائع قد ترك بصمته على قلبها، فأخبرته أن زوجها يردد اسمه (اسم المصور) في البيت دوما ويحدثنا عن سمو أخلاقه وأسلوبه الحضاري في الكلام، بعد دردشة استمرت لبضع الوقت استسمحها المصور الشاب كي يبدأ في العمل وتغطيته الفوتوغرافية لموضوع المعرض المقام على شرف الفنانة التشكيلية، فكان من حين لآخر يلتقط لهما أو لوحدها صورا مع مجمل لوحاتها التشكيلية، الموزعة بتسلسل وانتظام على جدران بهو الفضاء الفني وأحيانا أخرى مع معجبي ومحبي هذا الفن وهي من خلال ذلك تتحدث إليهم، إن لوحاتها الفنية المعروضة وتوزيعها الجميل على جدران المعرض قد أعطى بذلك ديكورا فنيا جميلا هذا الأخير يعكس حالة من الإبداع القائم في حد ذاته ونظرة ورونقا من نوع آخر... ما تحمله كل لوحة من مواضيع ومكنونات وأسرار والتي تطرقت إلى (المرأة والرجل في لوحة بعنوان _ اتفاق الزوجان - الورود الحمراء التي تعبر في عالم الرومانسية عن الحب، العشق والغيرة على الآخر مجسدة هي الآخرى من خلال لوحة فنية تعكس مشهدا جميلا لباقة من الورود تكتسي ألوانا مثل الأصفر واللون الوردي الذي يعبر عن الإحساس بالغيرة ليس (منه بل عليه) هذا في مفهموم الفنانة التشكيلية، الجمال هو أيضا مجسد من خلال لوحة فنية رائعة، الأطفال الصغار وهم يحتفلون كذلك توجد لهم لوحة معبرة معروضة خلال الفضاء الفني...)، اصطفاف تلك التحف التشكيلية قد يترك في مخيلة المتلقي الزائر للمعرض صاحب الذوق العالي وهو يشاهد على مسافة متوسطة للمجموعة الفنية تبدو له وكأنها مجموعة راقصات باليه صغار تقدمن عرضا فنيا مميزا للحضور وتظهر بذلك ما لديها من إبداع فني من خلال حركات وإشارات تعبيرية في مشاهد قد تثير الإعجاب بشكل كبير، كذلك هو الحال بالنسبة للتحف التشكيلية قد تفعل ذلك، لكن بأسلوب خاص بها... في الأخير وقبل مغادرتهم جميعا للمعرض الفني في يومه الأول من افتتاحه، سألها الفنان المصور على أي شيء كانت تعبر عنه لوحتها الفنية بعنوان _ اتفاق الزوجان _ ردت عن سؤاله (إن هذه اللوحة الفنية تذكرني بزوجي وبعلاقاتنا الزوجية الرائعة والراقية، كما يمكن أن تعبر عن حالات وعلاقات زوجية بين الناس، وهي في حد ذاتها أي اللوحة الفنية عربون محبة لزوجي بعد لقائي به في أول معرض لي، حدث ذلك منذ ما يزيد عن الأربعين سنة..). * فنان مصور فوتوغرافي وكاتب مساهمات فنية