الناس أجناس، والناس درجات، والناس معادن، هناك أشخاص عندهم غلظة، عندهم فظاظة، عندهم شدَّة، عندهم قسوة، فكيف عامل النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء؟ كان عليه الصلاة والسلام يتحمَّل جفوة الأعرابي ويلاطفه، فعَن الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: _مَنْ بَدَا جَفَا_ [مسند أحمد]. الإنسان قد يعيش في مكان ناءٍ، ليس له مجلس علم، ليس له مَنْ يهذِّبه، ولا مَنْ يوجِّهه، لا يحضر مجلس علم، لا يصغي إلى خطيب، لا يقرأ، لا يهتمّ بفهم ولا بعلم، يعيش بأعماله، هذا إذا أراد أن يحتكَّ بالناس ربّما كان فظّاً، ولذلك فالعلم يهذِّب. فكان عليه الصلاة والسلام يتحمل جفوة الأعرابي، ويلاطفه، ويقابل غلظته بلطيف المقال والحال؛ وذلك لتثبيته أو من أجل ألّا يُفتن، ويسلك به مسالك الرحمة، واللين، حتى لا ينفر ويشرُد. فسيد الخلق، زعيم أمة، قائد أمة، نبي، رسول، يمسكه أعرابي من ثوبه ويشده إلى أن يؤثِّر في صفحة عنقه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) [متفق عليه]. التعليم لنا، فصاحب الحاجة أرعن، صاحب الحاجة أعمى.. مع سيد الرسل أمسكه من ردائه وجذبه حتى أثَّر في عنقه، وقال: (يا محمد _ناداه باسمه- أعطني من مال الله؛ فهذا ليس مالك ولا مال أبيك). تبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (صدق إنه مال الله أعطوه ما يريد)، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يعامل جفاة الأعراب. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: _إِن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم يستعينه في شيء، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلَّم شيئاً، ثم قال له: (أأحسنت إليك؟) قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين وهمّوا أن يقوموا إليه، فأشار النبي الكريم إليهم أن كفوا، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام، وبلغ منزله دعا الأعرابي إلى البيت، فقال: (إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت)، فزاده النبي الكريم شيئاً وقال: _أأحسنت إليك؟_ قال: نعم (يعني الآن العطيّة معقولة)، فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، فقال النبي الكريم: (إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم)، فلما جاء الأعرابي قال عليه الصلاة والسلام: (إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنَّا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: نعم جزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً). اسمعوا التعليق: فقال عليه الصلاة والسلام: (إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجلٍ له ناقة، فشردت عليه، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم صاحب الناقة: خَلُّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها منكم، وأنا أعلم بها، فتوجَّه إليها صاحبها، وأخذ لها من قُمام الأرض (أي حشيش، أي من نبات الأرض) ودعاها، حتى جاءت واستجابت، وشدَّ عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار). قال له: (لا أحسنت ولا أجملت)، النبي زاده عطاء، فقال: (أحسنت وأجملت وجزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً)، هذه القصَّة دقيقة جداً، إنسان غير مصقول، محدود التفكير، صاحب حاجة، أرعن، تكلَّم كلمة، فأنت امتصَّها، احتَوِهِ، امتصَّ هذه الكلمة، تجاوْز عنها تأخذ بيده، أما لو انتقمت منه أهلكته. فسلام الله عليك يا رسول الله يا رحمة مهداة يا نعمة مسداة.. صلى عليك الله يا رحمة للعالمين، أرسلها الله..