بقلم: عبد العزيز كحيل / لو أنصف الناس لسلّموا أن الإمام الشهيد حسن البنا هو _ بكل تأكيد - مجدد القرن الرابع عشر الهجري، لو قرؤوا حياته ودرسوا تراثه واطلعوا عن كثب على ما قدّم للإسلام لما بقي لديهم شكّ في هذه الحقيقة التي انتهى إليها المنصفون من عرب وعجم، وإنما غيّبتها عن آخرين الدعايةُ المغرضة التي لازمت حركة الرجل وجماعته من طرف أكثر من جهة لبغضها لدين الله أو لاحتكارها تمثيله دون سواها. أبغضها العلمانيون العرب لأنه أبطل مشروعهم التغريبي بإنشاء جماعة دعوية تربوية سياسية تمثلت شمول الإسلام وحيويته ومواكبته لمسيرة الزمن لأنه دين الانسانية كلها ودين الزمن كله، فأبطل سحرَ المبشرين بدين يلتزم ضمير الانسان في حين يتولى الفكر الغربي (الانساني) تسيير الحياة بعيدا عن الأحكام والشرائع والأخلاق، لتنقطع الأرض عن هدي السماء. جدّد الداعية الكبير الإسلام على نهج الشافعي وعمر بن عبد العزيز وأبي حامد الغزالي وابن تيمية، فأخرجه من الزوايا القاصية والساكنة وأقحمه في معترك الحياة ليصلح جميع جوانبها من التربية والموعظة إلى السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية بواسطة شباب أصحاب وعي وإخلاص، يعرفون مهمتهم في الحياة، مرجعيتهم القرآن والسنة، وغايتهم إرضاء الله تعالى، وقدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهجهم الدعوة على بصيرة، بذلوا أرواحهم في معارك القنال لتحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي ثم في فلسطين لدحض الصهاينة الغزاة المعتدين، ولولا الخيانات العربية الرسمية لتحوّل تاريخ فلسطين إلى وجهة غير التي آلت إليها، فأعطوا للجهاد معناه الأصيل ومارسوه ممارسة الأبطال الغيورين على دينهم وأرضهم وأمتهم، ولم تمتدّ أيديهم بسوء إلى بريء مهما تقوّل عليهم المتقوّلون بالباطل من حكام مستبدين غير شرعيّين وأذناب لهم باعوا ضمائرهم للشيطان حتى لا يعمّ نور الاسلام. * كيان متميز وقد تميّزت دعوة الإمام الشهيد بالسعي المتواصل الحثيث لرأب الصدع بين العاملين للإسلام ولمّ شمل الدعاة والجماعات الإسلامية على اختلاف وسائلها واجتهاداتها، وعندما أيقن هؤلاء أن الرجل رباني مخلص وداعية بصير التفّ حوله أكثرهم وتناسوا خصوصياتهم الصوفية والسلفية والأزهرية وحشدوا جهودهم لخدمة دين الله وبلاد الاسلام، لم يشذّ منهم سوى الغلاة المتحجّرين من كلّ نوع، وسيمةُ الغلاة هي الشذوذ دائما. استطاع مؤسسة جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول تأسيس كيان متميّز عمّا عهدته الساحة الإسلامية آنذاك من تجمّعات دينية تقليدية تذوب في الواقع أكثر ممّا تغيّره، فهي جماعة آثرت العمل الميداني على التنظير، والممارسة على التجريد، كما آثر الإمام الشهيد تكوين الرجال على تأليف الكتب _ رغم باعه الطويل في القدرة على الكتابة كما يدلّ تراثه -، وجسدت في المعاملة اليومية القاعدة الذهبية (نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه)، ساعدها على ذلك الزادُ الأخلاقيُ الوافرُ الذي بثّه في أعضائها المؤسسُ الشاب، فتجنبت تماما الجدال والمراء والمناظرات، واتجهت إلى الشباب والفلاحين والعمال تُخرجهم من المقاهي والحانات وساحات اللهو واللغو وتحشد طاقاتهم في التزكية والبناء، كما اتجهت إلى الساسة وقادة الرأي تذكّرهم بمهامهم في خدمة الدين والوطن وقضايا المسلمين، وبقيت على العهد نفسه والسمت ذاته بعد اغتيال مؤسسها في 12/02/1949، فلم تتراجع ولم تنحرف ولم تتطرف رغم ما جرّها إليه خصومها من مظالم صارخة. موروث إنساني مات حسن البنا وقد عمّت دعوة الإخوان مصر من أقصاها إلى أقصاها وبدأت الانتشار في سورية بل وفي جيبوتي قبلها، توفي رحمه الله فأمدّ الله جماعته بأسباب الحياة والقوة والعطاء، وكلما أمعن الحُكام التغريبيون في التضييق عليها فتح الله لها آفاقا أوسع، فهي حاضرة في ميدان الأخلاق تدعّمها، وفي ساحة الجهاد تدافع عن بلاد المسلمين وأعراضهم، وعلى صعيد العلم تخرّج العلماء في كافة الفنون، حتى غدا فكرُها يدلّ على الإسلام ذاته لتميّزها بالاعتدال الذي لا تحيد عنه أبدا وبالثبات على المبادئ والصرامة فيها، والتحلي بالمرونة في الفروع والوسائل، تنوّعُها وتستفيد من كلّ جديد نافع، وبقيت على محاسن مؤسسها: تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، تبشّر ولا تنفّر، تيسّر ولا تعسّر، وقد عمد الإمام الشهيد إلى التراث الإسلامي فميّز بين الثابت والمتطوّر فيه وأشبعه بحثا وحرّر العقل المسلم من الأوهام والضبابية في الرؤية، كما توجّه بالنظر الثاقب والدراسة المعمقة إلى الحضارة الغربية فبيّن محاسنها ودعا إلى تبنّيها كموروث إنساني نافع، ونقَدها نقدا علميا رصينا ووضع اليد على مفاسدها وبيّن حكم الشرع فيها ودعا إلى نبذها مهما كانت الذرائع، فكان مجدّدا حقا. عرفت الجماهير المسلمة الجماعة من خلال أدبياتها البسيطة الواضحة ومن خلال بذلها السخيّ ورجالها ونسائها الثابتين الأوفياء للإسلام والأمة فلم تخذلها بل التفّت الأغلبية حولها واستجابت لها في العمل الخيري والنقابي والسياسي والطلابي، ومنحتها أصواتها كلما جرت انتخابات حرّة نزيهة في أيّ بلد عربي رغم حملات التشويه الظالمة المستمرّة، وهذا ما أثار الأوساط الغربية المتخوّفة من الاسلام وتلك الحاقدة عليه، فأوعزت إلى أتباعها هنا وهناك بإجهاض دعوة الإخوان وتجاربها الناجحة في أيّ ميدان، ولا يملك هؤلاء الأتباع إلا الانصياع لأمر أسيادهم وأولياء نعمتهم، بل هم أشدّ منهم بغضا للإسلام والإخوان بسبب انحرافهم الفكري وأمراضهم النفسية، فكان ما كان من عدوان باغٍ على الجماعة كلما تأهبت لتطبيق مشروعها بمباركة الجماهير، ولم ينجُ حسن البنا من ذلك العدوان لا حيّا ولا ميّتا، فقد اغتاله القصر الملكي ثم توارثت الأوساط العلمانية المتطرفة بغضه عن جهل وجهالة وحسد ونقمة، وانضم إليهم في هذا الموقف بعض غلاة الأجلاف في الصفّ الاسلامي ولنفس الأسباب وخاصة لأنه _ رحمه الله _ كسّر احتكارهم للدين والكلام باسم السماء بفضل اجتهاده الأصولي وتجديد للدين بعيدا عن النصوصية المفرطة والحرفية الجامدة وسلوكيات الغلظة والجفاء التي أضرّت بدين الله تماما كما أضرّ به الفكر التغريبي. ورغم هؤلاء يبقى حسن البنا حيّا في القلوب والعقول ويبقى مشروعه الحضاري في إنجاز مستمرّ لا يبالي بالشدائد والتحديات... وكم من مرّة ذهب الطغيان وبقي الإخوان، لأن مرشدهم قد بنى فأحسن البناء.