عبد القادر لطرش.. زهير سغوان، ولطفي قبوح.. ثلاثة أسماء، لثلاثة تلاميذ (ضحايا) الحادث الأليم الذي ألّم بأطفال صغار بمنطقة القليعة، كانوا يعيشون مدلّلين وسط عائلات وإن كانت تعيش حياة مزرية من شدة الفقر والعوز أو كما يقال حياة (الزوالية)، لكنها كانت تعمل المستحيل لتوفير حاجيات أبنائها، (ولوكان تنحي من لحمها)! كما عبروا لنا، لتأتي (حافلةٌ مجنونة)، وتخطف منهم أرواح فلذات أكبادهم .. وتخطف معها أحلامهم الصغيرة.. وحياتهم!.. إنهم تلاميذ متوسطة (الإخوة معمري)، التي لن يزوروها بعد اليوم أبدًا، لأنهم - ببساطة - قضوا نحبهم في طريقهم إليها.. (أخبار اليوم) زارت عائلات (ضحايا حادث القليعة).. عايشت مأساتهم .. واكتشفت مفاجآت (صادمة) نكشفها حصريا ولأول مرة. تحقيق: سيد علي شكيب لأن للموت هيبته، وللموتى حُرمتهم.. كان لزامًا علينا، أن ننتظر مرور أسبوع كامل، قبل أن نقصد بيوت الضحايا، القاطنين بحي (قيسرلي) بالقليعة لتقديم واجب العزاء أولاً، وللوقوف على حال أهالي، وذوي الضحايا، بعد الحادث الأليم، والمصاب الجلل الذي ألّم بهم ثانيًا، حتى لا يُقال إننا نبحث عن سبق صحفي، وإثارة إعلامية، والأهم من ذلك.. حتى (لا نذرّ على الجرح الملح)!.. فما كان يهمّنا أكثر هو الوقوف على حال أهالي الضحايا، بعد الحادث الأليم.. وبعدها (لكل حادثِ حديث) ! خالتي حسيبة عايشت الحادث الأليم الذي خطف ابنها عندما وصلنا إلى الحي، كانت الساعة تشير إلى تمام العاشرة صباحًا، ولم يستعص علينا الوصول إلى بيوت عائلات الضحايا، لأن (القاصي والداني)، يعرفها، بعدما أصبحت بيوتهم بعد الحادث (المشئوم) الأشهر في المنطقة بأسرها.. صعدنا سفحًا صغيرًا، في طريق موحلة، زادت طينها الأمطار بلّةً، بعد سقوطها في الليلة السابقة، وكأن السماء مازالت تبكي الضحايا.. واصلنا السير، وفي أعلى الربوة، وجدنا ثلاثة رجالِ يقفون أمام بيت متواضع، سألناهم عن مسكن عائلة الضحية الأولى المرحوم (لطرش عبد القادر) (العائلة التي فقدت الابن، وكادت تفقد والدته)، فأشار لنا أحدهم إلى الشخص الذي بجانبه، وقال: (هذا هو والده)، فعرّفنا (عمي عبد القادر) على أنفسنا، وبعد أن قدمنا له التعازي، سألناه عن حال زوجته (خالتي حسيبة) (57 سنة)، والدة الفقيد، (المرأة التي أبكت معالي وزيرة التربية)، فرد بنفس منقبضة: (وكيف سيكون وضع من فقدت ابنها ومدلّلها) ؟ خاصة أنها كانت معه وقت الحادث!.. (قالها وقد اغرورقت عيونه بالدمع، وهو يقول).. (كان ابنها المدلّل، و(المعزوزي)، كانت تدلله كثيرًا، ولا تحب أن يزعجه أحد.. (كانت ماتحبش عليه).. أب مجروح.. وأمُ على فراش الصدمة ! استشعرنا جرح الرجل، وشعرنا بوجعه، لكن صلابة الرجل المفجوع في ابنه، وزوجته، كانت عزاؤنا، فجمعنا شجاعتنا، وقد قفز سؤال مهم إلى أذهاننا، فبادرناه: (عفوًا، ولكن ما سر تواجد زوجتكم مع ابنها لحظة الحادث؟!.. (تنهد، ثم أجاب قائلاً).. الحقيقة أن شقيق زوجتي (خال المرحوم)، وزوجته كلاهما يعملا، فطلبا منها أن ترعى لهما الأبناء في غيابهما، وعليه فقد كانت زوجي تتجه يوميًا في الساعات الأولى للصباح، لمصاحبة أبناء شقيقها (كانت تشدلو الذراري)، وفي نفس الوقت، كانت فرصةً لمؤانسة (مدلّلها) (عبد القادر، رحمه الله) في طريقه للمدرسة، (كانت تروح معاه باه تونسو).. رد (عمي عبد القادر) بالقول.. لحظتها استأذنا منه الدخول عليها لمواساتها، فقال إن حالتها النفسية صعبة، وأنها مازالت لم تتقبل فكرة أن ابنها الذي كان بجانبها لحظة الحادث قد (مات)!... ألححنا عليه، ونحن نعده أننا لن نزعجها، فقط نريد أن نواسيها، ونلتقط لها بعض الصور، استأذن للحظات أخبر فيها زوجته بحضورنا، قبل أن يدعونا للدخول.. دخلنا وسلمنا على (خالتي حسيبة)، ولم نكد ننبس بكلمة حتى انفجرت المرأة بالبكاء، وهي تردّد اسم ابنها (عبد القادر) بشكل يفتت قلب الحجر الصوّان، وأخبرتنا أنها موجوعة من جنبها، قبل أن تعود إلى حالة اللاوعي، وتسألنا: (علاه عبد القادر ما جاش يشوفني.. ياك أنا اميمتو وراني مريضة.. وين راه وليدي عبد القادر؟).. فانهمرت الدموع من عيني زوجها، وحاول جاهدًا إخفائها، قبل أن نخرج ونغادر الغرفة، وقد أعجزنا السؤال، وأشعرنا بالخجل من أنفسنا.. لنلتقي بعد مغادرتنا المكان بشقيق (عبد القادر) (رحمه الله) الأكبر (معمر) وقد كشف لنا أن شقيقه الذي لم يره ليلة الحادث، لدخوله متأخرًا، كتب له القدر أن يراه صبيحة الحادث، قبل لحظات من موته، عندما عاد، وطرق الباب بشدة، ففتحتُ له الباب (يقول معمر)، ليخبرني أنه نسي النقود في البيت..لم أكن أعلم أنه عاد ليودعني من حيث لم يشعر).. قال (معمر) قبل أن يُطرق في صمت طويل، وحده المجروح من يعرف مداه.. أحمد كنوش ... عون مرور شاهدٌ على الحادث ! لدى خروجنا من بيت عائلة (لطرش)، كان جارهم الذي كان برفقة (عمي عبد القادر)، السيد (فوضيل بوشطاطة)، مازال واقفًا، فسألناه عن المرحوم، فرد قائلاً: (كان محبوبا، ومدلّل الجميع، يحترم الكبير والصغير.. تربية ما شاء الله.. ولا يرفض لأحد طلبًا، أو إسداء المعروف، حتى لو كان منهكًا).. وهو نفس الكلام الذي أكّده جارهم الآخر الذي التحق بنا (السيد رشيد عمر العين)، وباقي الجيران.. وفي هذه اللحظات، أطل علينا جارهم الآخر السيد (أحمد كنوش)، الذي يعمل كعون مرور للأطفال المتمدرسين، في إطار (تشغيل الشباب)، وفي نفس الوقت هو والد الطفلة (مليكة) (14 سنة) إحدى جريحات الحادث، والتي أصيبت في رأسها.. طلبنا منه أن يحدثنا عما حدث صبيحة الحادث؟.. فأخبرنا أنه كان يومها في وسط الطريق الوطني رقم 69 يؤدي عمله في تسهيل مرور التلاميذ، وقطع الطريق، وبيده إشارة (قف) للسائقين.. إشارة يقول (عمي أحمد)، لم يعترف بها!.. ولم يذعن لها، بل لم يتوقف أصلاً، عندما أشرت له -يقول محدثنا- حتى أنه صدمني على مستوى الكتف، وكاد يدهسني، بل ورماني جانبًا، فوق (الزرب)، بعد أن تجاوز حافلة الطلبة التي توقفت لإشارتي.. بينما هو لم يتوقف)!!.. زهير .. يحفظ القرآن ومات صائما ! تركنا كلاً من (عمي عبد القادر)، وعمي(كنوش)، يعودان مريضتيهما، واستأذنا منهما، قبل أن يرافقنا السيدين (رشيد) و(فوضيل)، إلى بيت الضحية الثانية للحادث المرحوم (زهير سغوان)، أو بكلمة أصح (كوخهم)، الذي كان بيتًا قصديريًا (بناء فوضوي)، وهناك، وجدنا (صِوان) العزاء مازال منصوبًا، والمعزون كُثر، قبل أن يستأذن منهم (عمي سغوان)، والد الفقيد (زهير)، وكذا شقيقه (عبد القادر)، و(عبد المجيد) (المدعو جدّيد)، ويستقبلونا، وفيما وجدنا الوالد صابرًا محتسبًا، لم ينبس ابنه الأكبر (عبد القادر) (الذي كان ما يزال تحت الصدمة) بكلمة، ناب عنهم (جدّيد)، وحدثنا عن شقيقهم الأصغر الذي كان محبوب الجميع، لنبل أخلاقه، وصفاء سريرته (وبشهادة كل الحضور)، والذي كان يتنافس مع شقيقته الأكبر (ليندة) على حفظ القرآن الكريم، والذي كان جزء (عمّ) وصورًا أخرى هي آخر ما حفظه.. (ليندة) أخبرتنا أنها كانت الأقرب إلى شقيقها، (بحكم أنهما متتابعان في ترتيب الإخوة)، قبل أن تكشف لنا وهي ثابتةٌ صابرة أن المرحوم، وقبل فترة من الآن كان قد باغتها وهو يخطف من يدها جهاز (البورتابل) الذي سجلت فيه (فيديو)، عن عذاب القبر، قبل أن يسألها (هل صحيح أن الله لا يعذب الصغار إذا ماتوا دون البلوغ)؟ فقالت له طبعًا، فهم غير مسئولين، فقال لها إذًا أدعو الله أن أموت صغيرًا، حتى أدخل الجنة).. (وقد تحقّق له ذلك)!.. في هذه اللحظات التحقت بنا شقيقتهما الأكبر (مسعودة)، التي كانت هي الأخرى ضحية حادث، فقدت فيه إحدى ذراعيها، وكان المرحوم يحلم بأن يكبر ويصبح طبيبًا، ليداوي شقيقته، أو يزرع لها يدًا.. قبل أن تقول والحسرة تعتصرها: (من سيداويني الآن، وطبيبي قد رحل؟).. في هذه اللحظات تُطل علينا والدة (زهير)، وهي مازالت تحت وقع الصدمة، لا تجد ما تقوله سوى(راني محروقة على وليدي..علاه حرقولي الكبدة ..علاه؟) قبل أن يتهدج صوتها، وتنخرط في موجة من البكاء وهي تقول: (خلاني صايمة، وراح وهو يوصي فيهم عليا.. اتهلاو في يما).. وقبل أن تتم كلامه، يتدخل شقيقه (محمد) (طالب جامعي) ليصدمنا بالقول: (هل تعلمون أن زهير كان يوم الحادث صائمًا، ومات وهو صائم؟).. ... لن نلعب معكم بعد اليوم أبدا ! وقفنا مشدوهين حيال ما سمعناه، وخفنا أن تخدعنا دموعنا، فاستأذنا منهم، وانصرفنا بصحبة صديق ابنهم، والصديق المشترك للضحايا الثلاث (شيفاوي عبد الحميد) (15 سنة)، والذي لم تختلف شهادته عما قاله سابقوه، وأكد لنا أن ثلاثتهم كانوا قد لعبوا ليلة الحادث مباراة كرة قدم، ودعوا بعدها الجميع، وهم يقولون: (هذه آخر مباراة لنا، لأننا لن نلعب معكم بعد اليوم أبدًا..).. وصلنا بيت عائلة (قبوح) فوجدنا في استقبالنا كلٌ من شقيق المرحوم (لطفي) الأكبر (حمزة)، وعميه (يحيى) و (بن حواء)، بينما التحق بنا والده المريض بعدها، ولم يستطع أن يقول كلمة واحدة.. بينما كانت والدته طريحة الفراش، في ما يشبه الغيبوبة.. ولكن عائلة (قبوح) التي يبدو أنها ملت من الحديث لوسائل الإعلام، وصفوا لنا باقتضاب شديد (بعد إلحاح شديد منا- ما حدث، وهم يؤكدون أنه لا حجة للسائق، الذي ادعى أن الفرامل تعطلت منه، لأن تقرير الخبرة الذي أعدته مصالح الدرك - يقول هؤلاء- أكد أن الفرامل كانت تعمل بصفة عادية، قبل أن يقولوا إنهم ملوا من الكلام، الذي لن يعيد لهم فقيدهم، وأنهم - وحتى لا تتكرر مأساة آفلو بالأغواط _ يريدون - وفقط _ القصاص.. قبل أن يصدمنا شقيق المرحوم لطفي هو الآخر بالقول: (هل تعلمون أن لطفي (رحمه الله)، قد مات في نفس اليوم الذي وُلد فيه.. لقد مات يوم عيد ميلاده).. لحظتها، لم نجد حيال دلك سوى القول لا حول ولا قوة إلا بالله. كلمة لابد منها: قبل غلق هذا الملف - ولو مؤقتاً- عندنا كلمة لابد منها: أين التكفل النفسي.. وأين النفسانيون؟ وهل ينتظر هؤلاء (دعوةً رسمية) للتكفل بأهالي الضحايا، وأصدقائهم، بل وكل سكان الحي، وخاصةً أن أغلب أطفال المنطقة هجروا مدارسهم، خوفًا من حادث مماثل؟.. سؤال وحدهم المختصون النفسانيون كفيلون بالإجابة عنه في ظل غياب التكفل النفسي كجانب مهم ومهمل وللأسف، إلى جانب جوانب أخرى لاسيما وأن أغلب العائلات تعاني البؤس والحرمان والعوز وتحتاج إلى الأخذ بيدها لمعالجة أفرادها المصابين من الحادث الأليم والتكفل بهم من الناحية الاجتماعية والنفسية.