فتح إسماعيل العلبة التي اعتاد أن يحضر فيها أكله اليومي، هذه المرة اجتمع كلّ أصدقائه العمال حوله، كانوا ينتظرون أن يكون الطعام فاصوليا او حساء آخر، ليقاسموه فيه، فالبرد شديد، وخاصة في ورشة البناء التي يعملون بها، وليس لهم للتخفيف من حدة ذلك البرد إلا أكلٌ ساخن، قبل أن يستأنفوا العمل. عندما رأى إسماعيل ذلك منهم راح يتباطأ قبل فتح العلبة، مستمتعاً بالتعليقات التي راحوا يطلقونها:"أسرع نكاد نموت جوعا وبردا"، قال رضا وعيناه لا تفارقان العلبة مُحاولاً اكتشاف ما بداخلها، أما علاء فصرخ قائلا: "لك عندي أن أدفع لك ثمن عشاء فاخر في أيّ مطعم، على أن تنقذنا اليوم بوجبة ساخنة". لقد اعتاد إسماعيل ورفاق الورشة تقاسم ما يجلبونه من أكل بينهم، فهذا يُحضر من بيته حساء، وآخر يشتري خبزا، وآخر جبنا وعصيرا وهكذا، وهذه المرّة، ولأنّ درجات الحرارة كانت منخفضة، فقد سارع الجميع، وما إن حلت الساعة الثانية عشر، إلى إسماعيل الذي كان وحده من احضر طعاما من البيت، واعتقدوا أنه سيكون أكلا ساخنا. فتح إسماعيل العلبة، ولكنَّ نظره لم يفارق وجوه أصدقائه، وكأنه لا يريد تضييع ملامح الحسرة التي ارتسمت على ملامح كل منهم، فالأكل لم يكن إلا سلطة وخضر، وهو ما جعل الجميع يسخط عليه:"لمَ لم تعلمنا منذ الصباح الباكر، وأنا من حسبت أننا سنحظى بحساء فاصولياء ساخن؟" تساءل سمير متذمرا، ثم أضاف علاء وكأنه عثر على حل، او أنه يحاول تلطيف الجو: "لا بأس، سنشتري سندويتشات ونأكلها مع تلك الخضر، فقد رأيت في إحدى البرامج أنّ الخضر تمنح الجسم حرارة كبيرة"، فأجابه رضا ساخرا:" لم أكن اعلم هذا، ومن الآن فصاعدا سأكل الحساء في الصيف، والسلطة في الشتاء". تعالت القهقهات فدوت في أركان الورشة الباردة. راح الجميع يأكلون من العلبة ومما اشتروه بصمت، ثمّ توقف إسماعيل قليلا وكأنه يعتذر: "ألاّ تعلمون أنّ الفاصولياء، بل كل البقوليات ارتفع سعرها، وصارت أكلا للأغنياء، بل والخبز ارتفع ثمنه هو الآخر، فكيف تطلبون مني أن احضر هذه الوجبة الفاخرة إلى الورشة، فعندما أخبرت أمي عن سبب تمنعها عن شراء الفاصولياء قالت أنها لن تفعل حفاظا على مبادئها، أجل، هناك من لا يزال يحافظ على مبادئه في زمن البرد والفقر والمأساة هذا". ثم أعقب علاء على حديث إسماعيل قائلا: "معك حق، وحتى العجائن زاد ثمنها، وقد أردت شراءها أمس، ولكن لم افعل، هؤلاء التجّار، وكلما رأوا المواطنين يقبلون على شيء، إلاّ وزادوا ثمنه، لا تعتذر يا إسماعيل، فالخطأ ليس خطأك وإنما خطؤنا جميعنا، وكيف لا تُرفع الأسعار ونحن نجلس هنا دون حراك". انتهى الأكل الذي جلبوه واشتروه، واكتشفوا، أو عثروا بداخل العلبة على حبّة فاصولياء باقية من وجبة البارحة فراح كل واحد منهم يحاول أخذها بشوكته، وهم يضحكون ضحكا مرا باردا قاسيا قساوة الحياة التي يعيشونها.