أعلم أن الخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة كما قال سلم بن عمرو الشاعر:- لا تسأل المرء عن خلائقه في وجهه شاهد من الخبر، فسمة الخير: الدعة والحياء، وسمة الشر: القحة والبذاء، وكفى بالحياء خيرا أن على الخير دليلا، وكفى بالقحة والبذاء شراً أن يكونا إلى الشر سبيلا، وقد روى حسان بن عطية عن أبي إمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي شعبتان من الأيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) أخرجه أحمد والترمذي والحاكم. ويصد بالعي: سكون اللسان تحرزاً عن الوقوع في البهتان والبذاء: ضد الحياء وهو فحش الكلام، والبيان: فصاحة اللسان والمراد به هنا ما يكون فيه إثما من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حق، ويشبه أن يكون العي في معنى الصمت، والبيان في معنى التشدق، كما جاء في حديث آخر: (إن أبغضكم إلى الله الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)، وروى أبوسلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء من الأيمان والأيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار) في معجم الطبراني، سنن البيهقي، وأخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأخرجه البخاري في الأدب عن أبي بكرة. الحياء من الإيمان المسلم عفيف حييي والحياء خلق له، والحياء من الأيمان والأيمان عقيدة المسلم وقوام حياته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الأيمان) رواه البخاري ومسلم وسر كون الحياء من الأيمان أن كلا منهما داع إلى الخير صارف عن الشر مُبعد عنه، فالأيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي، والحياء يمنع صاحبه من التقصير في الشكر للمنعم ومن التفريط في حق ذي الحق كما يمنع الحيي من فعل القبيح أو قواه اتقاء للزم والملامة، ومن هنا كان الحياء خيراًَ، ولا يأتي إلا بخير كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (الحياء لا يأتي إلا بخير) رواه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين. أقوال في الحياء: قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. قال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه. قال بعض البلغاء العلماء: يا عجباًَ ! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي، وتتقي من طول مالا تتقي ؟! وقال صالح بن عبد القدوس: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه حياءك فاحفظه عليك وإنما *** يدل على فعل الكريم حياؤه قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح وبمنع من التفريط في حق صاحب الحق. ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحى منه وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير. قال الفضيل بن عياض: خمس علامات من الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحي هو. ومن الآثار الإلهية:- * يقول الله عز وجل: {ابن آدم.. إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك..وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك..ومحوت من أم الكتاب زلاتك.. وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة} * ويقول الله عز وجل: {ما أنصفني عبدي.. يدعوني فأستحي أن أرده ويعصيني ولا يستحي مني}. الحرص على الحياء والدعوة إليه: المسلم إذ يدعو إلى المحافظة على خلق الحياء في الناس وتنميته فيهم إنما يدعو إلى خير ويُرشد إلى بر، إذ الحياء من الأيمان والأيمان مجمع كل الفضائل وعنصر كل الخيرات، وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن الحياء من الأيمان)، فدعا بذلك إلى الإبقاء على الحياء في المسلم ونهى عن إزالته ولو منع صاحبه من استيفاء بعض حقوقه، إذ ضياع بعض حقوق المرء خير له من أن يفقد الحياء الذي هو جزء أيمانه وميزة إنسانيته ومعين خيرته، ورحم الله امرأة كانت قد فقدت طفلها فوقفت على قوم تسألهم عن طفلها، فقال أحدهم تسأل عن ولدها وهي منتقبة فسمعته فقالت: لأن أرزأ في ولدي خير لي من أرزأ في حيائي أيها الرجل. ما لا يمنعه الحياء خلق الحياء في المسلم غير مانع له أن يقول حقاً أو يطلب علماً أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر. o فقد شفع مرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه فلم يمنع الحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأسامة في غضب: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة والله لو سرقت فلانة لقطعت يدها). o ولم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية أن تقول يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فيقول لها رسول الله _ ولم يمنعه الحياء _ (نعم إذا رأت الماء). o خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة فعرض لغلاء المهور فقالت له امرأة أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر ألم يقل الله (...وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاُ...)، فلم يمنعها الحياء أن تدافع عن حق نسائها، ولم يمنع عمر أن يقول معتذرا: كل الناس أفقه منك يا عمر. o قال: مرة في المسلمين وعليه ثوبان فأمر بالسمع والطاعة فنطق أحد المسلمين قائلاً: فلا سمع ولا طاعة يا عمر عليك ثوبان وعلينا ثوب واحد، فنادى عمر بأعلى صوته: يا عبد الله ابن عمر فأجابه ولده: لبيك أبتاه فقال له: أنشدك الله أليس أحد ثوبي هو ثوبك أعطيتنيه ؟ قال : بلى والله، فقال الرجل: الآن نسمع ونطيع فانظر كيف لم يمنع الحياء الرجل أن يقول، ولا عمر أن يعترف. تذكر.. قبل أن يندثر الحياء يقول الله تعالى في سورة القصص [آية: 25]: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. جاء في تفسير السعدي: فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى، فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصا في النساء. ويدل على أن موسى - عليه السلام - ، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة، وإنما هو عزيز النفس، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه، ما أوجب لها الحياء منه، ف (قَالَتِ) له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي: لا لِيمُنَّ عليك، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك، فأجابها موسى. تبدأ هذه القصة عندما رأى سيدنا موسى _ عليه السلام - امرأتين تذودان ينتظران حتى يسقى الناس مواشيهم لعجزهما عن مزاحمة الرجال، ثم يبدأن هما في السقى. حيث جاء سورة القصص (من آية 23 : 25) {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)} {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مواشيهم، وكانوا أهل ماشية كثيرة، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} أي: دون تلك الأمة {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} غنمهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم، وعدم مروءتهم عن السقي لهما. {قَالَ} لهما موسى {مَا خَطْبُكُمَا} أي: ما شأنكما بهذه الحالة، {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي: قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم، فإذا خلا لنا الجو سقينا، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي: لا قوة له على السقي، فليس فينا قوة، نقتدر بها، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء. فرق لهما موسى - عليه السلام - ورحمهما، {فَسَقَى لَهُمَا} غير طالب منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حر، وسط النهار، بدليل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} مستريحا لذلك الظلال بعد التعب. {فَقَالَ} في تلك الحالة، مسترزقا ربه {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا. وأما المرأتان، فذهبتا إلى أبيهما، وأخبرتاه بما جرى. أين نحن من هذه الأخلاق الحميدة الآن ؟! هل ما زالنا نرى هذا الحياء أو بعضاً منه في مجتمعتنا الآن ؟!.. أم أوشك على أن يندثر ويختفي بدعوى التقدم والتحرر ؟!