بقلم: سعدون يخلف* في خضم الأحداث التي تعيشها المنطقة العربية من قتل وتهجير للناس وتدمير للمنشآت والبنى التحتية وتدخلات خارجية لم تقتصر على الأعداء التاريخيين للعرب فقط، كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل... بل أضيف لهذه القائمة عدو آخر يتدثر بلباس الإسلام، ويستغل شعارات المسلمين، ويدعي مناصرة قضاياهم المصيرية، والدفاع عن حقوقهم المسلوبة من طرف قوى إمبريالية عالمية (صهيو أمريكية) .. هذا العدو هو إيران. مارست إيران مبدأ (التقية) ببراعة وإحكام، حيث أظهرت للعرب ما يجب أن تظهره، وأخفت عنهم وجهها الحقيقي، فادعت بأنها تناصر قضاياهم المصيرية، كيف لا، والهوية الدينية واحدة، والمصير مشترك، ضف إلى ذلك تداخل التاريخ والجغرافيا، وبما أن الشرق الأوسط منطقة متعبة بألاعيب التاريخ وفواجعه، وتعقيدات الجغرافية وضروراتها، ومستهدفة من طرف القوى العظمى لأنها منطقة تملك رصيداً روحياً متميزاً وحضارياً كبيراً، وثروة طبيعية هامة، وفي مقابل ذلك تعيش المنطقة حالة فراغ في القيادة منذ سقوط الدولة العثمانية، وبما أن العرب لا يمكنهم أن يسدوا هذا الفراغ، فحالهم يُرثى له، ودولهم تسقط الواحدة تلو الأخرى، فالفرصة مواتية أمام إيران حتى تحقق حلمها الذي طالما روادها منذ سقوط الإمبراطورية الفارسية على يد العرب. هكذا تكلم علي شريعتي: يميز (علي شريعتي) المفكر الإيراني الكبير بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، فالتشيع العلوي هو التشيع الصفي والنقي.. والذي يستمد مشروعيته من سيرة علي بن أبي طالب ومن أحبوه وساروا على دربه واقتفوا أثره.. وهو الذي يناصر المظلومين ويقف في وجه الظلمة، بمعنى آخر أكثر دقة هو (تشيع المعرفة والمحبة والسنة والوحدة والعدل والاجتهاد والحرية والمسؤولية والتوحيد والإنسانية). أما التشيع الصفوي، فهو التشيع الذي لبسه الساسة، ودسوا فيه تعاليم وممارسات جديدة، حتى يبقوا على مشاريعهم الخاصة، وطموحاتهم القومية، لذلك يصف شريعتي هذا النوع من التشيع بكونه (تشيع الجهل والبدعة والتفرقة والمظاهر والمديح والجمود والعبودية). هذا النوع من التشيع مستعد للتواطؤ حتى مع الشيطان من أجل إعادة دولة الفرس إلى الوجود، واحياء الإمبراطورية المقبورة. هذا التشيع يُكِنُّ للعرب كراهية مقيتة، ويعتبرهم ليسوا أهلا لحمل راية الإسلام، فهم أهل بادية وجمال بعكس الفرس أهل الحضارة والعلم. لذلك تجد هذا التشيع يعلي من قيمة الأئمة، ويجعلهم في مرتبة أعلى من مرتبة الأنبياء والرسل، ذلك أن الفرس باختصار يحسّون بنقص، النّقص وليد الاختيار الرباني للعرب دون الفرس، والنّقص دائما في حاجة إلى التعويض، كما يرى علماء النفس، فأسسوا هذه الديانة الجديدة - إن صح التعبير - ديانة تخالف الإسلام في بعض أصوله، وفي كثير من تفاصيله. هدف إيران: بما أن العرب في حالة ضعف ووهن لا نظير له.. وبما أن منطقتهم الاستراتيجية تعيش حالة فراغ.. وبما أن النظام العالمي يعيش حالة أزمة حيث بينت الأحداث المتسارعة أن أمريكا لا تستطيع قيادة العالم وحدها، لذلك لا بد من إعادة ترتيب البيت العالمي من جديد، وهذا بدوره يقتضي توزيع الأدوار على القوى الصاعدة. إيران لاحظت هذا التغيير وبدأت تحضّر له، بما خططت له، وبما لديها من أوراق تفاوضية، فلها ورقة المفاعل النووي الذي صدعت به رؤوس العالم، ولديها ورقة العراقوسوريا والبحرين ولبنان واليمن، وعندما يقول المسؤول الإيراني بأن صنعاء هي العاصمة الرابعة التابعة لإيران، فهو يوجه كلامه إلى الغرب حتى يُذكره بأن إيران أصبحت قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة، لا بد أن يحسب لها ألف حساب، في توزيع الأدوار المستقبلية، وفي تقسيم الكعك العربي. ما يدعم هذا التحليل ما صرح به الرئيس الأمريكي باراك أوباما في لقائه مع توماس فريدمان من جريدة نيو يورك تايمز، حيث قال: (إن أكبر خطر يهدد الدول العربية ليس إيران، وإنما الغضب داخل بلادهم، لا سيما من قبل الشبان الغاضبين والعاطلين، والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم). الرئيس الأمريكي في هذا الحوار يقول نصف الحقيقة، وهي أن مشكلة العرب داخلية أكثر منها خارجية، ولعل ما ذكره هو أعراض المشكلة، وليس أصلها، فأصلها يتمثل في الأنظمة الاستبدادية التي تدعمها أمريكا سياسياً، وتزودها بالسلاح الفتاك الذي يوجه للأسف تجاه هؤلاء الشبان الذين يتحسر عليهم أوباما في حواره. ولكنه لم يوفق في نفيه لنصف الحقيقة الأخرى، والمتمثلة في نفيه للخطر الإيراني على العرب، ربما لو قالها قبل عشر سنوات من الآن، أو قبل بداية ثورات الربيع العربي لاعتبر العربي مثل هذا القول خيراً عميماً، لأنه سيجلب للمنطقة الأمن المفقود والسلام المتعثّر، ولكن أن يقوله اليوم بعدما رأى العربي المسكين مؤامرات إيران على الثورة السورية، ووقوفها بجانب النظام، وضد تطلعات شعب أراد التحرر من قيد العبودية، وبعدما اكتشف حقيقة إيران، وما يفعل عملاؤها في لبنانوالعراق واليمن وسوريا، فهذه محاولة للعبث بالحقيقة وليّها، وضحك من العرب واستغباء عقولهم، لأن الواقع يقول إن إيران هي المسؤول الأول عن الفتنة الطائفية التي تعصف بالمنطقة، وتتحمل المسؤولية الكبرى في الدمار الذي طال سوريا وما لحق شعبها من قتل وتشريد، وهي سبب في المعاناة التي يعيشها الشعب العراقي، وهي السبب في الحرب الدائرة الآن في اليمن، لأنها أوحت لعملائها الحوثيين بأن الوقت مناسب للسيطرة على صنعاء، ومن ثم على اليمن كله. قد يكون تصريح أوباما هو رسالة لطمأنة الطرف الإيراني، لكسب ثقته ودفع مسار المفاوضات حول المفاعل النووي حتى يتكلل في الأخير بالنجاح. هل باراك أوباما متعلق بوهم كما قال كاتب إيراني معارض؟ الإدارة الأمريكية على دراية بأن الاتفاق مع إيران لن يصمد كثيراً، لأن المحاور الإيراني الحقيقي والمتنفذ يقف بعيداً، ويراقب، وفي بعض الأحيان، يتدخل ليملي ما يراه صواباً، وهو في الأصل يعترض على الاتفاق من أساسه، ويعتقد أن الحصول على السلاح النووي ضرورة وجودية، ولكن المرحلة وضرورتها حتمت عليه أن ينحني أمام العاصفة، ليحقق مكاسب في المستقبل المنظور، هذه الأمور إذن ليست خافية على أوباما، ولكنه في هذا الوقت، وهو على أهبة الرحيل من البيت الأبيض، يريد أن يحافظ على الوعد الذي قطعه مع ناخبيه، ويريد أن يذكره التاريخ بأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم يورط بلاده في حروب ظالمة. مما سبق نستنج أن أوباما يفكر في أمريكا التي في عهده، ولا تهمه أمريكا الآتية بعده، لذلك لم يعط ما تقوله استطلاعات الرأي أدنى اهتمام، والتي تعتبره في بعض الأحيان أسوأ رئيس أمريكي، وتصفها الأخرى بأنه الأضعف، في حين قال عنه أحدث استطلاع بأنه خطر على أمريكا. عاصفة الحزم: السؤال الذي يطرح في هذا الصدد: هل أحسّ العرب بأن أمريكا غدرت بهم، وخانت ثقتهم، وتخلت عنهم، في لحظة حساسة، لحظة مشحونة بالتوترات والخلافات بين الجانبين _ أي العرب وإيران - في العديد من الملفات، لعل أبرزها الملف اليمني والبحريني والسوري وبدرجة أقل العراقي، نست كل هذا وراحت تمضي اتفاقات، وتعقد تفاهمات مع الجانب الإيراني؟. الإجابة قد تكون نعم. ذلك أن العرب لم يبنوا منظومة دفاعية تحافظ على وحدة أوطانهم، واستقلال دولهم، وتحمي حدودهم من الأخطار الخارجية المحدقة بهم، لأنهم ببساطة سلموا قضية أمنهم لأمريكا، فعدو العرب هو حتماً عدو لأمريكا، فكانت أمريكا تتدخل في المنطقة عندما تتعرض مصالحها للتهديد، والكل يتذكر عندما شنت الحرب على العراق بعد غزو صدام حسين الكويت، حيث اعتبرت تهديد الكويت ومنطقة الخليج بمثابة تهديد لأمريكا، كما اعتبرت إيران لسنوات طويلة مصدر خطر على جيرانها وأمريكا والعالم الحر، حيث وضعتها في قائمة محور الشر، وسلطت عليها عقوبات قاسية، وبين عشية وضحاها أضحت إيران لا تشكل خطراً على العرب، بل الخطر الذي يهددهم من العرب أنفسهم كما صرح بذلك أوباما. يرجع سبب هذا التغير، كما يرى العديد من الكتاب والمحللين، إلى أن أمريكا انحسر حضورها في العالم، وقوتها بدأت تتراجع، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط تثقل كاهلها، وأن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لا تولي أهمية كبيرة لهذه المنطقة، كل هذه الأسباب أضافت قوة لإيران، وفي المقابل أضعفت موقف العرب. هل تكون عاصفة الحزم بداية للتحرر من التبعية لأمريكا في دفاع العرب عن أنفسهم؟ ربما، ولكن حتى تكون النتائج أكثر إيجابية لا بد من إصلاح البيت العربي الداخلي المهترئ، وتقوية الجبهة الداخلية، وذلك بإقامة أنظمة ديمقراطية تقوم بإشاعة مبادئ العدل وحقوق الإنسان، وقد كان الربيع العربي فرصة سانحة لعبور العرب إلى هذه الضفة، ولكنهم للأسف أضاعوها بسبب أنانية هذه الأنظمة، وهوسها بالتسلط واستعباد الناس.