بعد نحو 34 عاما من الشروع في عملية بنائه، بدأت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أول تجربة تقنية لتشغيل مفاعلها النووي (بو شهر)، وسط قلق وخوف كبيرين من طرف الدول الغربية، أمريكا وإسرائيل، مما جعل الإدارة الأمريكيةالجديدة تغير في سياستها تجاه إيران وتتودد للتحاور معها، بعد أن كانت مصنفة في قائمة الدول المغضوب عليها (محور الشر) ومهددة أحيانا عدة بضربة عسكرية. وقد أتمت إيران وبنجاح كبير بناء مفاعلها النووي، الأمر الذي يوحي بأن إنتاج قنابل نووية إيرانية أضحى وشيكا، رغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها من طرف الأممالمتحدة بايعاز من أمريكا وإسرائيل عقابا لها على تجرئها للخوض في التكنولوجية النووية، في حين لا تزال الأنظمة العربية غارقة في خلافاتها ولم تنجح حتى في تحقيق ربع ما أنجزته إيران، رغم آلاف المليارات من الدولارات التي تتدفق على خزائنها. ويرى محللون سياسيون أن تأخر تدشين المفاعل النووي الإيراني بمحطة بو شهر، رغم استكمال روسيا السنة الماضية تسليم الوقود النووي اللازم لتشغيل المحطة، يعود إلى ضغوطات غربية وأخرى أمريكية حالت دون ذلك. والآن بعد تدشينه، انتقد الغرب الذي يشك في النوايا الإيرانية من خلال سعيها لتصنيع القنبلة النووية، مشاركة روسيا في بناء أول محطة للطاقة النووية في الجمهورية الإسلامية، رغم التصريحات الروسية التي تقول إن محطة بو شهر هي لأغراض مدنية وليست عسكرية. .. من دولة مارقة ومصدرة للإرهاب، إلى الحوار اختيار أوباما هذه المرة الإستراتيجية الدبلوماسية في تعامله مع الجمهورية الإيرانية، لاسيما بعد إعلانه عن ترك العراق لأهله، في إشارة منه لانسحاب قواته من بلاد الرافدين، لم يكن اعتباطيا، لأنه وحسب محللين سياسيين أن فتح الحوار مع إيران كان لزاما للحفاظ على المصلحة الأمريكية، خاصة بعدما شهدت قوات الحلف التي تترأسها أمريكا ضربات قوية على أيدي الطالبان في أفغانستان، واعتراف أكبر القادة العسكريين الأمريكيين أن طالبان أفغانستان يشكّل أكبر تحد عسكري للولايات المتحدةالأمريكية، وهو الأمر الذي جعل أوباما يلجأ للحوار مع الطرف الإيراني وتمتين تحالفه مع أفغانستان وباكستان، لأنه لا يريد أن تتحمّل بلاده العبء الأكبر من الحرب على الطالبان. ومن جهتها، إيران تصرح على لسان رئيسها أحمدي نجاد، بقبولها للحوار الأمريكي شريطة عدم استفزازها لأجل منعها من تحقيق تكنولوجيا نووية، والذي تعتبره حقا شرعيا لها وإعلانها عن استكمال بناء مفاعل بو شهر النووي الذي تزامن مع خطاب أوباما، كان يهدف إلى قطع خطوة إضافية لتعزيز شروطها في أي مفاوضات مع واشنطن. إيران الآن في وضع عسكري وسياسي مريح، والإدارة الأمريكية الحالية لا تؤيد توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية ضد إيران، ويتجلى ذلك من خلال توجهاتها الجديدة والمتمثلة في فتح قنوات اتصال نشطة مع سورية حليفة إيران، وإعلان رغبتها في الحوار مع الثانية حول ملفها النووي، فأولوياتها الرئيسية حالياً معالجة الوضع الاقتصادي المتردي، وإصلاح العطب في صورة أمريكا في العالم الإسلامي، وتقليص خسائرها في الحروب التي لا يمكن كسبها في كل من العراق وأفغانستان. * هستيريا إسرائيلية من مفاعل بو شهر الإيراني وفي ظل سعي "دولة الفرس" بناء قدراتها التكنولوجية وفرض نفسها كدولة نووية كباقي الدول المتقدمة، يرى المراقبون المتتبعون للوضع السياسي أن إسرائيل تعيش حالة رعب كبيرة، وصلت ذروتها في اليومين الأخيرين، خاصة عندما أتمت إيران بناء مفاعل بو شهر، لأنها تعي جيدا معنى هذا الانجاز الكبير، وقد امتدت حالة الرعب هذه إلى تهديدات مباشرة أطلقها كبار الساسة الإسرائيليين، مفادها أن إسرائيل بلد قوي جدا ويملك قدرات عسكرية يصعب تصور مداها وكفاءتها وتعزز قوة ردعها، وستعرف كيف تدافع على أمنها وأمن شعبها. وفوق كل هذا، إسرائيل لم تسقط الخيار العسكري ضد إيران من حساباتها، وكلها مؤشرات يقول عنها المحللون السياسيون، إنها دلالات واضحة على مدى الهستيريا التي تعيشها الدولة العبرية من الطموحات النووية لإيران. فهذه التهديدات لم تؤثر في الجهود الإيرانية لتطوير القدرات النووية، بدليل اكتمال بناء المفاعل المذكور، رغم الضغوط الكبيرة التي مارستها الحكومة الإسرائيلية على روسيا من أجل التخلي عن تعاونها مع إيران في هذا الخصوص. فزيارات المسؤولين الإسرائيليين للعاصمة الروسية، لم تتوقف طوال الأعوام الثلاثة الماضية دون أي نتيجة. وحول الإستراتيجية الإيرانية التي انتهجت لأجل إنجاز برنامجها النووي، يقول عنها المحللون السياسيون إنها كانت على درجة كبيرة من الذكاء، من حيث التعامل مع المعطيات الدولية والظروف المحيطة بطموحاتها، والتي قامت على أسس رئيسية، أهمها عدم إغلاق باب المفاوضات بالكامل مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة الطاقة الدولية، والرد دائما بطريقة مدروسة على الطلبات والتساؤلات، من خلال منحها مزيدا من الوقت لتخصيب كميات كافية من اليورانيوم، إلى جانب نسج علاقات قوية تحالفية مع دول قوية ناشئة وهي الصين، الهند وروسيا، تقوم على أساس المصالح الاقتصادية الحيوية، مثل عقود نفطية مغرية وفتح الأسواق الإيرانية أمام منتجات هذه الدول، وأخيرا محاصرة إسرائيل عن طريق إقامة حركات مقاومة، مثل "حزب الله" في جنوب لبنان وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، وتقديم كل أسباب الدعم المالي والعسكري والسياسي لهذه الحركات، بحيث تصبح قوة ردع أساسية تشل التفكير الاسرائيلي بقصف إيران ومفاعلاتها النووية. * الأنظمة العربية لا تزال أسيرة خلافاتها السطحية في الوقت الذي نجحت فيه إيران في بناء مفاعل بو شهر النووي، وقبلها كانت قد نجحت في تطوير صواريخ باليستية التي مكّنتها من وضع أول قمر صناعي محلي الصنع في الفضاء، رغم ثماني سنوات من الحرب خاضتها مع العراق سابقا، في حين لا يزال العرب منشغلين في تسوية خلافاتهم الثانوية. وعن التخوف العربي من تمكن "دولة الفرس" من امتلاك قوة عسكرية نووية، يرى المحللون السياسيون أن الدول العربية تركض بدون اتجاه، فكل واحدة تستند إلى حليف دولي أو إقليمي، وهناك تخوف أن تقفز حكومة أوباما على الواقع وتضع في أحد اشتراطاتها لأي تسوية مع إيران، إعطاءها دوراً إقليمياً، بما يعني أن تكون بمثابة الشريك الفاعل في وضع المنطقة، وخاصة المحيط العربي، فالعراق لم يعد كسابق عهده، بحيث قضي على النظام الذي كان يهدد المصالح الأمريكو الإسرائيلية، ووضع بدله نظام حليف يخدم المصالح الأمريكية. وفي فلسطين، دمار في غزة وحكومة أقرب إلى الضعف في الضفة، واتهامات متبادلة بين القطبين الرئيسيين، "فتح" و"حماس"، دون أن تحدث تسويات في خلافاتهما المستمرة التي وصلت إلى حد السجون والإعدامات، لشعب وجد نفسه بين سندان رصاص إسرائيل ومطرقة الإخوة الأعداء، فضلا عن الصحراء الغربية التي تنادي بضمها المغرب، هذا الأخير الذي لم يفكر في استرجاع ميلة وسبتة المحتلتين من طرف إسبانيا منذ زمن طويل، إلى جانب الخلافات العربية الأخرى. ووسط هذه الفوضى الكبيرة التي يعيشها العرب، يرى المراقبون المتتبعون للشأن العربي أنهم سيكونون الخاسر الأكبر، لاسيما الدول الخليجية، بعد ضياع استثماراتها وعوائدها في الأزمة المالية الأخيرة التي هزت العالم بأسره، بحيث ستكون هذه الدول مرتعا لنهب الثروات، خاصة وأن الأنظمة العربية الحالية منشغلة في تسوية خلافاتها السطحية ولا تشعر بالخطر المحدق بها.