بقلم: هارون يحيى* تجارب التاريخ في الحقيقة بمثابة خريطة طريق للمستقبل. يمكننا أن نرى من خلالها ما تم تجريبه، ما هو ناجح وما هو ضعيف أو غير مجد. ربما الذي جعل الديمقراطيات قوية هو المآسي التي سببتها الشيوعية، أو سببها الطغاة الفاشيّون. وربما نجحت الجمهورية التركية لأنها لم تكرّر أخطاء الإمبراطورية العثمانية. على الرّغم من أن التاريخ مليء بالدّروس، إلا أنّه من الصعب أحيانا أن نتعلم من الفشل، فالخطط التي خلقتها الحرب العالمية الأولى، والصناعات التي كانت بحاجة ماسة للاستمرار في العمل، وأجهزة الدولة السرية والوعود والتهديدات السّرية تدخل كلها في المعادلة، فالأخطاء الكبيرة في يومنا هذا، هي نتيجة لعدم الاستفادة من دروس التاريخ وأحداثه. غزو أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر خلف حركة طالبان، وكان ذلك خطأ أمريكا، والورم الذي نتج عنه لم يصب أفغانستان فقط، بل امتد إلى باكستان. أرادت أمريكا حل المشكلة من الخارج، وذلك باستخدام طائرات بدون طيار، لكنها تركت وراءها الآلاف من القتلى المدنيّين، ولم تستطع الولاياتالمتحدة إحراز النصر هناك، بل ساهمت عملياتها في تقوية شوكة حركة طالبان. مخطط شامل لم يكن بالإمكان مشاركة حقول النفط واليورانيوم في الصومال بين أوروبا في الغرب والصين في الشرق، فتأثرت البلاد بالاضطرابات الاقتصادية وانهارت، وسارعت القوى الغربية العظمى إلى بناء قواعد عسكرية في جيبوتي، تلك الدولة الصغيرة، وأعطى هذا الصراع الفرصة لولادة حركة الشباب من جديد، وبدأت أنشطتهم في كل شبر من الصّومال. لقد حاولوا استخدام التكتيك نفسه في أرض نيجيريا الغنية بالموارد، ونتج عن ذلك ولادة حركة بوكو حرام، ذلك الشر الذي بدأ بمداهمة القرى وذبح 2000 شخص من الأبرياء، بدون أن يرف له جفن. احتُل العراق، وأدى ذلك إلى تمكين تنظيم القاعدة في المنطقة، كذلك تم تحطيم سوريا، وظهر على الفور ما يسمى ب(تنظيم الدّولة الإسلامية) الذي ينمو بشكل متزايد، هذا التنظيم الذي ولد فعلا في العراق، وظهر من تحت الأنقاض التي خلفها الغزو الأمريكي. كما نتج عن الاضطرابات الداخلية في أفريقيا وحدها العام الماضي مقتل 6347 مدني في نيجيريا، و2116 في جمهورية أفريقيا الوسطى و1817 في جنوب السودان، و4425 في الصومال.. عدد القتلى يصل إلى نسب مرعبة عندما يضاف إليه أعداد المقاتلين أيضا، لقد أثبت التاريخ مرارًا أنّ محاولة التعامل مع النّاس باستخدام العنف والشدة والقسوة ينتهي فقط بالويلات. لقد تم إنشاء سجن غوانتانامو وفق هذا المنظور، ومباشرة بعد انتخابه في عام 2009 ألقى الرئيس الأمريكي أوباما خطابا متفائلا قال فيه: (سوف نغلق هذا المخيم)، هذا الوعد لم يطبق في السنوات الستّ الماضية، إلا أنه ومرة أخرى أدرج على جدول أعمال أو باما في سياسته للفترة المقبلة، وأكد الرئيس على هذا الوعد، وأضاف قائلا: (لا معنى لإنفاق 3 ملايين دولار على كل سجين للحفاظ على سجن العالم أجمع يدينه ويستخدمه الإرهابيون للتّجنيد). من الجيد طبعا أن نسمع مثل هذا الكلام، ولكن هذه الوعود لا تغير من الحقيقة شيئا، إذ أنّ هناك معتقلين في غوانتانامو لم يمثلوا أمام المحاكم لمدة 13 عاما ويتعرضون للتعذيب بصورة منهجية. يتذكر القراء تلك الوثائق التي سربها موقع ويكيليكس عام 2011، كشفت أنّه كان هناك 780 معتقل عندما افتتح غوانتانامو، من بينهم 220 وصفوا بأنهم إرهابيون خطرون، و380 كانوا قد أرسلوا إلى أفغانستان لارتكابهم جرائم تافهة و150 كانوا أبرياء تمامًا. على الرّغم من أن عدد المعتقلين قد هبط إلى النّصف في فترة أو باما، إلا أن العقبات البيروقراطية في الإدارة الأمريكية لا تسمح بمحو هذا العار، والمشكلة الأخرى هي أن الولاياتالمتحدة غير مستعدة للإفراج عن المعتقلين وإرسالهم إلى بلدان أخرى أو إبقائهم على أراضيها، حتى لو حصل المعتقلون على حق الإفراج عنهم، فهم سيبقون وراء القضبان نفسها طالما لا يوجد أي بلد مستعد لقبولهم. سياسة التعذيب (أنا سُجنت مع عدد كبير من النّاس بتهمة الإرهاب، ومعظم هؤلاء النّاس لم يكونوا مسيّسين قبل الذهاب إلى سوريا، لقد ذهبوا إلى سوريا في الحقيقة لمساعدة السّوريين، لكنهم الآن مسيّسون. الآن هم يكرهون الحكومة)، هذه كلمات كتبها معظّم بيغ، الذي أمضى ثلاث سنوات في سجن غوانتانامو، وهي ذات دلالات كبيرة.. وهذه الكلمات تلخّص النتائج الرّهيبة لسياسة التعذيب والقسوة. من المرعب أن نعلم أن هناك جيلاً جديدًا نشأ على الكراهية والحقد، وللأسف فإنّ عوامل تفاقم الكراهية وتراكمها مازالت مستمرة. هذه السياسة لا تؤدي إلى مزيد من الكراهية فقط، بل أيضا هي كارثة على العالم من الناحية المادّية.. ففي الوقت الذي وصل فيه العالم لمستويات كبيرة من الفقر والجوع والمرض، يتم تركيز الاستثمار كله تقريبا في صناعة الأسلحة، وتنفق الولاياتالمتحدةالأمريكية مبلغ 755 مليون دولار في 6 ساعات في هجماتها على ما يسمى ب(تنظيم الدّولة الإسلامية)، حيث تكلف طلعة جوية واحدة لطائرات الأف 22 س حوالي 60000 دولار من الوقود، وتبلغ تكلفة الصواريخ التي تطلقها الطائرات الأمريكية في كل مرة ما مجموعه 74 مليون دولارة ومن المتوقع أن تصل فاتورة الحرب إلى 10 بلايين دولار. إن المجتمعات المستعدّة لسحق بعضها بعضا متأثرة بتلك العقلية التي ذكرنا، هي أيضا مذنبة ولا تختلف عن أصحاب تلك العقليّة. يجب علينا أن نحتشد لفضح الأخطاء العقائدية وإظهار حقيقة أن العالم قد خلق للتكاتف والصّداقة، وليس للحرب. لا يمكننا تحقيق أيّ نجاح من خلال الجلوس والانتظار والقول (لا شأن لي بذلك؟)، الحل لتجنب الحرب لا يكون إلا من خلال تصحيح الأفكار الخاطئة التي تقود إلى الحروب وتثقيف تلك المجتمعات الغافلة. دعونا لا ننسى أنه لا الصّواريخ ولا غوانتانامو استطاعا وضع حد لهذه المأساة، ولن يحصل ذلك في المستقبل.