لقد تبدلت أحوال الناس الآن رأسا على عقب؛ فبينما كانت البساطة في كل الأمور هي سمة الحياة قديما، وكان الناس سعداء بها، راضين بما قسم الله لهم، قلما تصيبهم الهموم أو ينغص عيشهم غمٌّ أو تلفهم مشكلات من كل جانب. أصبح أغلب الناس في عصرنا الحاضر يعيش ضيقا في الأفق، رغم اتساع الكون من حوله، ويعاني أمراضا نفسية، إضافة إلى الأمراض العضوية المختلفة، على الرغم من تطور العلم والطب، وتوافر وسائل العلاج عامة والأدوية بصفة خاصة، فإنسان هذا العصر دائم الشكوى، كثير الضجر ينظر فوقه أكثر مما ينظر أمامه أو تحت قدميه، لا يرضى بحاله، ويريد أن يصل إلى ما يصبو إليه بسرعة البرق، دون أن يكلف نفسه عناء البحث والجد والعمل الدؤوب، والأخذ بأسباب التطور والتقدم والرقي، ولسان حاله يقول: إنني أريد أن أصل إلى كذا مثل فُلان، أو يكون لديَّ كذا مثل عِلِّان، فهل يستطيع أي إنسان أن يضرب الأرض فتخرج ذهبا؟ أو يحلم بأشياء في المساء، فيراها ماثلة بين يديه في الصباح؟ هل يملك مصباحا سحريا فيمسح عليه، ويطلب منه ما يريد فيحقق له ما يتمناه؟ فإذا كان الإنسان لم يخلق في هذه الدنيا عبثا، وإنما خلق لأمر عظيم وهو عبادة رب العالمين، فلم يصب بالهم، وقد كفل الله له رزقه وجعله في السماء فلا ينازعه فيه أحد؟ فما عليه إلا أن يأخذ بأسباب الرزق؛ حتى ينال ما قسمه الله له منه، ويتوكل على خالقه، ويفعل كما تفعل الطير فهي لا تنتظر في أعشاشها حتى يأتيها رزقها، وإنما تبحث عنه حتى تصل إليه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي _ صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا، وتروحُ بطانًا) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني. والإنسان كما يسعى للرزق ويأخذ بأسبابه، فعليه من باب أولى بعبادة ربه، فلا يشغله أي شيء عن ذلك، ولتكن نيته في كل شيء حسنة، يعمل من أجل أن يوفر لنفسه ما يحتاج إليه من طعام وشراب وملبس ومسكن وغير ذلك، حتى يتقوى بها على عبادة ربه، فالدنيا دار ممر إلى الآخرة دار المستقر، قال تعالى: (وَمَا هَ_ذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) {العنكبوت، آية 64}. أما إذا شغلت الدنيا الإنسان عن الآخرة، فقد ضيع الدنيا والآخرة ففي الحديث المرفوع، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ فِي قَلْبِهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْهَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة)رواه الترمذي، وصححه الألباني. فما من سبيل في رأيي للتنعم في الدنيا إلا بطاعة الله والأخذ بأسباب السعادة الحقيقية لا الزائفة والعمل ثم العمل. فلا تفاخر بما فعله السابقون من الآباء والأجداد من دون أن نضيف إلى ما قدموه شيئا جديدا يذكر لنا، فيشكر؛ وبذلك نكون قد استفدنا منهم وأضفنا إليهم، وليجعل كل منا قول الشاعر نبراسا له. إن الفتى من يقول هاأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي إن الهموم أو الغموم لم تكن لتحيط بالإنسان، لولا ضعف مناعته الإيمانية وعدم توكله على رب البرية، وتكالبه على الدنيا وجمع المال دون أن يرفع رصيده للدار الآخرة دار الخلود، فالدنيا لا تساوي شيئا مقارنة بالآخرة، وكما ورد في الحديث: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) رواه الترمذي، وصححه الألباني. فإذا عرض الإنسان كل شيء على موازين الآخرة، وجد أنه لا داعي للهم أو القلق، ولنام قرير العين، هادئ البال، ولعاش سعيدا مع تبدل الأحوال، ولم يؤرقه ضيق الدنيا لعلمه بسعة الآخرة، وكذلك لأن عمره في الدنيا مهما طال لا يقارن ببقائه في الآخرة، وكما يقال: (همك ما أهمك). وخير ختام لمقالي هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي) رواه أحمد، وصححه الشيخ شاكر. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال) رواه البخاري.