ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3583 شهيدا و 15244 مصابا    هولندا ستعتقل المدعو نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاعتدال في طلب الرزق والإنفاق
نشر في أخبار اليوم يوم 14 - 12 - 2014


* الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم
إن من المعلوم بداهةً: أن المالَ قِوامُ الحياة وزينتُها، وأن الناسَ يستقبِلون صباحَهم في كل يومٍ وشُؤونُ الرزقِ مُستَوليَةٌ على أفئدتهم، مُستحوِذةٌ على أفكارهم.
المُقِلُّ منهم يريدُ سَعَةً، والمُوسِعُ يريدُ مزيدًا.. فإما غنيٌّ فيه طمع، أو فقيرٌ عنده قلق، وقليلٌ من هم بين ذلك.
وللناس مع الرزقِ في هذه الحياة مذاهبُ شتَّى، ودروبٌ مُتفاوِتة، كلٌّ حسب ما يحمِلُه قلبُه واعتِقادُه عن مفهوم الرزقِ ومفهومِ طلبِه، واستيعابِ الواجبِ تحقيقُه من الوسائل المُؤدِّية إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل: 1- 4].
فمن الناس قلِقٌ مُتوجِّسٌ .. لا يهنَأُ بنومٍ لو أغمضَ عينيه، ويتجرَّعُ طعامَه وشرابَه على شرَقٍ ولا يكادُ يُسيغُهما؛ لأن هاجِسَ الرزقِ مُستولٍ عليه، وجاثِمٌ بقلبِه.
فهو لا يثِقُ بوعدٍ، ولا يستحضِرُ قدَرًا قدَّرَه الله، ولا يأمَنُ سبيلاً ..
يرى نفسَه بين الحياة والموت إن لم يلهَثْ وراءَ الرزقِ بلا شرطٍ ولا قيدٍ؛ بل تستوي عنده وسائلُ التحصيل حلالاً كانت أم حرامًا ما دامَت غايتُه المُشوَّشة تُبرِّرُ الوسيلة.
ومثلُ هذا عباد الله إذا رأى أولَ الرزقِ سالَ لُعابُه لآخرِه حتى يأكلَ ولا يشبَع، ويشربَ ولا يرتوِي؛ ليصدُقَ عليه قولُ المُصطفى صلى الله عليه وسلم: لو كان لابنِ آدم وادِيان من مالٍ لابتغَى وادِيًا ثالثًا، ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدم إلا الترابُ، ويتوبُ الله على من تابَ ؛ رواه مسلم.
ومن هذه حالُه .. يستبِدُّ به الجشعُ والشراهَة، فيجعلانِه لا يكتفِي بقليل، ولا يشبَعُ من كثيرٍ، لا يكفيه ما عنده فيمتدُّ إلى ما عند غيرِه، فيُصيبُه سَعارُ الكانِز.
وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد نهَى عن منعٍ وهات؛ فإن شِعارَ هذا وأمثالِه هو: هاتِ وهاتِ!
التواكل والتوكل
وفي الناسِ من هو عكسُ ذلكم تمامًا، قد أخلدَتْ نفسُه إلى الراحة .. وآثَرَ الدَّعَة .. وجلسَ حِلسَ بيتِه، لا يهُشُّ ولا ينُشُّ، ينتظِرُ السماءَ أن تُمطِرَ ذهبًا أو فضةً، يرى أن القاعِدَ كالساعِي أو خيرٌ منه؛ بل يرى أن السعيَ لطلبِ الرزقِ جُهدٌ مُهدَر، وثَلْمٌ لقَدَحِ التوكُّل والقناعة.
والواقعُ عباد الله أنه قِناعٌ وتواكُل، وليس قناعةً وتوكُّلاً.
والغِرُّ من هؤلاء من إذا حاجَجتَه قال لك: ألم تسمَع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنَّكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزُقُ الطيرَ، تغدُو خِماصًا وتروحُ بِطانًا ؛ رواه أحمد والترمذي.
فانظُروا يا رعاكم الله إلى استِدلال القعَدَة من المُتوكِّلين، كيف أخذُوا من الحديث توكُّل الطيرَ، ولم يأخذُوا منه غُدوَّهَا ورواحَها!
لقد ظلمَ فِئامٌ من الناس القناعة؛ فحسِبُوها الرِّضا بالدُّو، فعَمُوا وصمُّوا عن غيرِ هذا المعنى، ثم عَمُوا وصمُّوا عن تصحيحِه، فضعُفَت الهِمَم عن طلبِ معالِي الأمور، وعلَتْ همَّةُ تمجيد الفقرِ والجُوع. وهؤلاء وإن كانوا همُ القِلَّة في المُجتمعات في سائرِ العُصور، إلا أنهم يرفَعون عقيرتَهم بهذا أحيانًا كثيرة.
وقد رأى الفاروقُ رضي الله تعالى عنه قومًا قابِعين في رُكن المسجِد بعد صلاة الجُمعة، فسألَهم: من أنتم؟. قالوا: نحن المُتوكِّلون على الله! فعلاَهم عُمرُ رضي الله تعالى عنه بدِرَّته، ونهَرَهم وقال: لا يقعُدنَّ أحدُكم عن طلبِ الرزقِ ويقول: اللهم ارزُقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضَّة، وإن الله يقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10].
وكان سُفيانُ الثوريُّ رحمه الله يمُرُّ ببعضِ الناس وهم جُلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسكم؟، قالوا: فما نصنعُ؟ قال: اطلُبُوا من فضلِ الله، ولا تكُونوا عِيالاً على المُسلمين.
إن المُسلمَ السعيدَ هو الذي تعتدِلُ أمامَه مسالِكُ الحياة في طلبِ الرزقِ، فيعملُ ويتصبَّبُ منه عرقُه ليتطهَّر من فضَلاتِ الكسَل، وجُمود النفس، ويكسِبَ الكسبَ الحلالَ الطيبَ؛ إذ المُسلمُ ليس راهِبَا في دَيرٍ لا عملَ له ولا كسب؛ لأن الإسلام لا يعرِفُ المُؤمنَ إلا كادِحًا عامِلاً في هذه الحياة، آخِذًا منها، مُعطِيًا لها، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15.
ولقد تعوَّذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الفقر، وأمرَ بالتعوُّذ منه؛ لأن الإسلام يريدُ من أهلِه أن يكونوا أقوِياء أغنِياء، لا مهازِيلَ ضُعفاء.
ومعنى أن يكونوا أغنِياء؛ أي: ليسُوا عالَةً يتكفَّفُون الناس.
فالإسلامُ لا يُريدُ الفقرَ المُذِلَّ لأتباعِه، كما أنه لا يُريدُ الغِنى المُطغِيَ لصاحِبِه، فلا هو مع الكَسُول المُحتال باسمِ التكسًّب، ولا هو مع الذين يُحبُّون المالَ حُبًّا جمًّا، ويأكُلُون أموالَ الناس أكلاً لَمًّا، يُعمِيهم ذلك عن دينِهم وأخلاقِهم.
ثم إن المالَ عباد الله غادٍ ورائِح، ومُقبِلٌ ومُدبِر، يغتنِي بحُصُولِه أقوام، ويفتقِرُ بعدمِه آخرُون، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) [النحل: 71].
وما على العبدِ المؤمنِ إلا أن يبذُلَ الأسباب، ويبتغِي عند الله الرزقَ، فلا يدرِي أين خبَّأَ الله له رِزقَه؛ فمصادِرُ الرزقِ ليس سَواءً، والناسُ يتناوَبُون على معايِشِ الحياة، يطلُبُونَها على صُورةٍ تناوُبٍ لا يقدِرُ عليه إلا الله سبحانه، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعَْضهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32].
ولهذا مكَّن الله للناس في الأرضِ؛ لتتنوَّعَ مصادِرُ أرزاقِهم، كما قال جلَّ شأنُه: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10].
فالله جل وعلا قسَمَ المعاشَ وقدَّرَ الأرزاق، والناسُ أجمَعون لا يملِكون لك أيها المرء عطاءً ولا منعًا، وإنما الناسُ وسائِط؛ فما أعطَوك فهو بقَدَر الله، وما منَعُوك فهو بقَدَر الله، وما كان لك فسوفَ يأتِيكَ على ضعفِك، وما كان لغيرِك فلن تنالَه بقوَّتِك، (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73].
وما عليك أيها المسلم إلا أن تجِدَّ وتعملَ، وتضرِبَ في آفاق الأرض، وتأخُذَ بأسبابِ الرزقِ؛ فمن جدَّ وجَد، ومن زرَعَ حصَد، فلا كسبَ بلا عمل، ولا حصَادَ بلا زرعٍ.
روى الإمامُ أحمد عن رجُلَين من الصحابة رضي الله تعالى عنهما، أنهما دخَلاَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأعاناه على شيءٍ كان يُصلِحُه، فقال لهما: لا تيأَسَا من الرزقِ ما تهزَّزَت رؤوسُكما؛ فإن الإنسانَ تلِدُه أمُّه أحمر ليس عليه قِشرة، ثم يرزُقُه الله عز وجل .
ومسألةُ الرزقِ عباد الله أدقُّ من أن يفهمَ الناسُ أغوارَها، وأعظمُ من أن يُدرِكُوا عُمومَ حِكَمِ الله فيها؛ لأن الله هو الرزاقُ ذو القوَّة المتين.
ولنَنظُر إلى شيءٍ من مطالِبِ الرزقِ على وجهِ التدبُّر، واستِحضارِ حِكمةِ اللطيف الخَبيرِ فيها؛ لنجِدَ أن من الناسِ من لم يُكتَب له رِزقُه إلا في أعماقِ البِحار؛ كالغوَّاصين، أو في ثَبَجِ الهواء بين السماء والأرض؛ كالطيَّارين والملاَّحين، أو تحت الأرضِ يجِدُون لُقمةَ عيشِهم في كسرِ صخرٍ صلدٍ؛ كأصحابِ المناجِم.
والعجبُ كلُّ العَجَب فيمن رِزقُه كامِنٌ بين فكَّي الأُسود وهو مُروِّضُها، أو بين أنيابِ الفِيَلَة وخراطِيمِها وهو يسُوسُها، أو مثلِ بَهلَوانٍ يمشِي على حبلٍ ممدودٍ في الهواء؛ ليجِدَ لُقمةَ عيشِه بالمشيِ عليه، في مُخاطَرةٍ تُدهِشُ العقولَ، وتُرعِدُ الفرائِص.
أقوات مرهونة
هل لنا عباد الله أن نتصوَّرَ أرزاقَ أُناسٍ مرهونةً بمرضِ السرَطَان أعاذَنا الله وإياكم منه، وعافَى من ابتُلِي به؟! أوَلَيسَ للسرَطان طبيب؟! أوَ ليسَ له حُقنةٌ؟! أوَ لَيسَ للطبيبِ هذا رزقٌ بهذا الدواء؟! وذلك المُمرِّض مرهونٌ بمثلِ هذا المرضِ القاتِل.
أفلا نعلَم أن من الناس من قُوتُهم مُناطٌ بالبَردِ القارِسِ؛ ليَبيعَ مِدفَأةً أو مِلحفَةً؟! أو من قُوتُه مُناطٌ بالحرِّ الشديد؛ ليَبيعَ ثلجًا أو آلةَ تبريد؟!
أليس هناك من رِزقُه مُناطٌ بفَرَحِ زوجٍ وزوجةٍ ليُجِّرَ لهما وسائلَ الفرَح؟! أوَ لَيسَ هناك من رِزقُه مُناطٌ بأترَاحِ الناس وأحزانِهم.. فيحفُرَ قبرًا لفُلان، أو يَبيعَ كفَنًا لعلاَّن؟! وقولوا مثلَ ذلكم في رِزقِ الجلاَّد، والسجَّان، ومُنفِّذ القِصاص، وقاطِعِ يدِ السارِق.
إنها حكمةُ الله وعظمتُه، وتسخيرُ عبادِه بعضِهم لبعضٍ، (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
وقد قال الصادقُ المصدوقُ صلواتُ الله وسلامُه عليه: وجُعِلَ رِزقِي تحت ظلِّ رُمحِي .
ألا رحِمَ الله عبدًا كسَبَ فتطهَّر، واقتَصَدَ فاعتَدَل، وذكَرَ ربَّه ولم ينسَ نصيبَه من الدنيا، ويا خيبةَ من طغَا مالُه ورِزقُه عليه، وأضاعَ دينَه وكرامتَه، وكان من الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة: 11].
فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد وصفَ بعضَ الرِّجال في آخر الزمان، أن أحدَهم يَبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا ؛ رواه مسلم.
قال أنسُ بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه: رأينَا من باعَ دينَه بدِرهم، عافانا الله وإياكم.
المُؤمنُ الحقُّ عباد الله هو الراضِي بما قسَمَ الله له من رِزقٍ، وهو المُوقِنُ بعدلِ الله فيما قسَمَ من أرزاقٍ لحكمةٍ يعلمُها سبحانه (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255].
ذكر ابنُ الجوزيّ رحمه الله عن ابن الراوَنديِّ الضالِّ الذي اشتهَرَ بالذَّكاء في القرن الثالثِ الهِجريِّ، أنه قد جاعَ يومًا واشتدَّ جوعُه، فجلسَ على الجِسرِ وقد أمضَّه الجُوعُ، فمرَّت خيلٌ مُزيَّنةٌ بالحريرِ والدِّيباج، فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعليِّ بن بلتَق غُلام الخليفة.
فمرَّت جوارٍ مُستحسَناتٍ، فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعليِّ بن بلتَق غُلام الخليفة.
فمرَّ به رجُلٌ فرآهُ وعليه الضُّرُّ، فرمَى إليه رغيفَين، فأخذَهما ابنُ الراوَنديُّ ورمَى بهما، وقال: هذه الأشياء لعليِّ بن بلتَق، وهذان لي؟!
وما علِمَ هذا الجاحِدُ أنه بهذا الاعتِراض أهلٌ لهذه المجاعة!
قال الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله مُعلِّقًا: فلعَن اللهُ الذكاءَ بلا إيمان، ورضِيَ الله عن البَلادَة مع التقوى.
فالرزقُ عباد الله لا يُردُّ إلى كَياسَة المرء وعقلِه؛ فربَّما رأينَا أكيَسَ الناس من أفنَى عُمرَه في الكسبِ، قد يفُوقُه في الغِنى من هو أجهلُ منه، وأقلُّ عقلاً وذكاءً.
وقد أحسنَ الشافعيُّ رحمه الله حين قال:
ومن الدليلِ على القضاءِ وكونِه****بُؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ
فما الذكاءُ عباد الله سببٌ في الغِنى، كما أن الفقرَ ليس سببُه الغباء، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ: 36].
ولقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلَى ؛ رواه الشيخان.
يقول ابنُ قُتيبةَ رحمه الله: اليدُ العُليا هي المُعطِية. فالعجَبُ عندي من قومٍ يقولون: هي الآخِذة، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قومًا استَطابُوا السؤال.
إن العملَ عباد الله مهما كان حقيرًا فهو خيرٌ من البِطالة؛ لأن العِزَّة بلا سُؤال خيرٌ من ذِلَّةٍ بسُؤال.
وإن الإسلام نظرَ إلى المُكلَّف نظرَ اعتِبارٍ؛ حيث دعاه إلى نُزول ميادِين العمل على أنواعها، إما مأجورًا، أو حُرًّا مُستقِلاًّ، أو مُشارِكًا في المال إن استَطاع.
وقد سُئِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الكسبِ أفضل؟ قال: عملُ الرجلِ بيدِه، وكلُّ بيعٍ مبرور ؛ رواه الطبراني.
وقال صلواتُ الله وسلامُه عليه: ما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرٌ من أن يأكُلَ من عملِ يدِه، وإن نبيَّ الله داوُد كان يأكلُ من عملِ يدِه ؛ رواه البخاري.
والحاصِلُ عباد الله: أنه يجبُ على المُسلم أن يسعَى في الرِّزقِ ويبذُل وُسعَه، وأن يرضَى بما يقسِمُ الله له، وأن يجعلَ الغِنى والقِلَّة مطيَّتَين لا يُبالِي أيهما قُسِم له؛ فإن كانت القِلَّة فإنها قد تسمُو كما سمَتْ قِلَّةُ المُصطفى صلواتُ الله وسلامُه عليه، فإن فيها الصبرَ والاحتِساب. وإن كانت الغِنى، فإن الغِنى قد يدنُو كما دنَا غِنى قارُون.
كما أنه في الوقتِ نفسِه محلٌّ للبَذلِ والإنفاقِ من فضل الله، وجِماعُ ذلكم كلِّه محكومٌ بما قالَه المُصطفى صلى الله عليه وسلم: إن روحَ القُدُس نفَثَ في رُوعِي أن نفسًا لن تموتَ حتى تستكمِلَ أجلَهَا وتستوعِبَ رِزقَها، فاتقوا الله وأجمِلُوا في الطلبِ، ولا يحمِلنَّ أحدَكم استِبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمعصيةِ الله؛ فإن الله تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعتِه ؛ رواه الطبراني والحاكمُ وصحَّحه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.