في البداية بدا الأمر وكأنه "حادثة شخصية معزولة " على حد تعبير بيان رسمي، لكن سرعان ما تحول إلى حركة احتجاجية فاجأت بحجمها ثم اتساعها وارتداداتها السلطة والرأي العام والمراقبين. وهو ما جعل كل حديث عن تونس طيلة الأيام الماضية يقترن آليا بما حدث ويحدث بولاية (أي محافظة) سيدي بوزيد. انطلقت الأحداث بإقدام محمد بوعزيزي على إحراق نفسه يوم الخميس 16 ديسمبر 2010 أمام مقر الولاية، وهو الشاب الوديع الحامل لشهادة جامعية حسبما قيل. المؤكد أنه ينحدر من أسرة فقيرة، وهو ما دفعه إلى أن يتحول إلى بائع متجول لإعالة أفراد عائلته الثمانية مستعينا بعربة والده التي تركها بعد موته. وبدل أن يراعي أعوان البلدية ظروفه، لاحقوه وصادروا بضاعته، وأهانوه ودفعوه إلى قمة الإحباط واليأس. سكب بوعزيزي البنزين على جسمه وأشعل النار فيه عندما منعوه من مقابلة والي (أي محافظ) الجهة، وهو ما أثار رد فعل غاضب في صفوف شباب منطقة سيدي بوزيد، الذين تجمعوا رافعين شعارات تطالب بتوفير العمل والنهوض بمدينتهم ومنطقتهم. وما إن تدخلت قوى الأمن حتى تصاعدت حدة الاحتجاج، وتجددت الاشتباكات مع قوى الأمن التي تكثف حضورها بشكل قوي. وكانت تلك الشرارة التي فجرت أحداث الأيام العشرة الماضية. مواجهات وضحايا.. بعد تلقي الضحية للإسعافات الضرورية، وبدأت المصادر الطبية تتوقع بأنه قد أخذ يتجاوز حالة الخطر، وأخذت الأوضاع تهدأ قليلا، إذ بشاب آخر من نفس المنطقة يدعى حسين فالحي، عمره 25 عاما، هو أيضا بحالة اجتماعية وأسرية صعبة يقدم في مساء يوم الأربعاء 22 ديسمبر على تسلق عمود كهربائي، محتجا على ظروفه البائسة، قبل أن يلمس أحد الأسلاك، ويفارق الحياة فورا، حسب رواية أحد الشهود. وقد أعادت عملية الانتحار هذه أجواء التوتر التي أخذت تنتشر ببقية معتمديات الجهة (المكناسي وجلمة والرقاب وسيدي علي بن عون والمزونة وبئر الحفي وسوق الجديد) التي شهدت بدورها مسيرات احتجاجية وصدامات مع عناصر الشرطة التي سعت بكل الوسائل لإعادة الهدوء ومنع التظاهر. وفي اليوم الثامن من المواجهات، سقط بتاريخ 24 ديسمبر بمدينة منزل بوزيان محمد بشير العماري ( 24 عاما ) - أحد خريجي الجامعة العاطلين - صريعا نتيجة إطلاق نار حسبما ذكرته مصادر طبية وأهلية، إلى جانب سقوط عدد من الجرحى. وجاء في بيان صادر عن وزارة الداخلية أن أعوان الحرس (أي الدرك) "اضطروا إلى استعمال السلاح في نطاق الدفاع الشرعي عن أنفسهم ". أما المصادر القريبة من المتظاهرين فقد ذكرت من جهتها أن أعمال العنف التي حدثت بالمنطقة جاءت كرد فعل على مقتل صديقهم بعد استعمال حرس الجهة للذخيرة الحية. في حين احتجت أحزاب المعارضة بقوة على استعمال السلاح ضد المتظاهرين، ومن بينها حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) التي عبرت في بيان لها عن "شديد استنكارها لمواجهة الإحتجاجات الشعبيّة بالسلاح"، وحذرت "من عواقب تمادي السلط في استسهال الركون إلى الحلول الأمنية عوض اعتماد نهج الحوار الذي ما انفكت تنادي به مختلف القوى السياسية و الاجتماعية ". حدثت كل هذه التطورات في منطقة يتمتع فيها التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم منذ عام 1956) بوجود قوي، نظرا للدور الهام الذي لعبه أبناؤها خلال مرحلة الصراع مع المستعمر الفرنسي. فهذا التحرك الإحتجاجي العفوي غير المسبوق بالجهة، والذي لا زال مستمرا منذ عشرة أيام بدون انقطاع يعتبر مؤشرا آخر لافتا للنظر، يضاف إلى ما كشفته التحقيقات في ملف أحداث ما عرف بمدينة سليمان (مواجهات مسلحة في ضواحي العاصمة التونسية في موفى 2006 بداية 2007) من أن بعض أفراد المجموعة الذين شاركوا في تهريب السلاح أو التدريب ينحدرون أيضا من منطقة سيدي بوزيد. كيف تعاملت السلطة مع الحدث؟ يمكن القول بأن تعاطي الجهات الرسمية مع الأحداث قد مر بمرحلتين. حاولت الجهات الرسمية في البداية أن توكل الأمر إلى المعالجة الأمنية، وأن تقلل من أهمية ما حدث، وهو ما عكسه البيان الرسمي الذي تمت الإشارة إليه أعلاه. في حين أن معظم الأطراف السياسية والنقابية أكدت على أن جهة سيدي بوزيد تفتقر للحد الأدنى من البنية التحتية والهياكل الاقتصادية، وأن "منوال التنمية المعتمد بالجهات الداخلية الذي أعطى الأولوية للقطاع الخاص وأعفى الدولة من دورها التنموي الحاضن لم يؤدّ إلى قيام قاعدة اقتصادية تنموية في هذه الجهات تضمن خلق مواطن شغل لطالبيه وخاصة حاملي الشهادات الجامعية مما انعكس في ارتفاع نسبة البطالة بما يفوق المعدل الوطني المعتمد"، وذلك حسبما ورد في بيان لحزب الإتحاد الديمقراطي الوحدوي الممثل في البرلمان والذي يتمتع بعلاقات جيدة مع السلطة. رفضت الجهات الرسمية من جانبها "التشكيك في مقومات التنمية" بولاية سيدي بوزيد، وأكدت في بياناتها أن جهود الحكومة قد "أسهمت في التخفيض من نسبة البطالة والتحكم فيها بما لا يتجاوز المعدل الوطني بما في ذلك أصحاب الشهادات العليا"!. الصحف المحلية لازمت في البداية الصمت، أو قدمت روايات غير متطابقة مع الوقائع. وهو ما كان له الأثر السيئ على أبناء الجهة، الذين لجؤوا بكثافة نحو وسائل الإعلام الخارجية واتخذوا منها المصدر الأساسي لتغطية الأحداث، إضافة إلى مواقع الفايسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها، وهي المواقع التي لعبت مع أجهزة الهاتف النقالة دورا حاسما في نقل الأحداث بالكلمة والصورة بشكل شبه فوري، وقطعت الطريق نهائيا أمام مختلف وسائل الحجب والمراقبة، مما خلق نوعا من التواصل الإعلامي الجديد من نوعه سواء بين أبناء الجهة أو على الصعيد الوطني والدولي. في مرحلة ثانية ومع معاينة اتساع الحريق، سارعت السلطة بتوجيه وزير التنمية والتعاون الخارجي إلى الجهة، الذي أعلن عن تخصيص 15 مليون دينار تونسي (حوالي 10،5 مليون دولار) لإنجاز مشاريع عاجلة بولاية سيدي بوزيد. الخطوة رحب بها البعض وتعامل معها آخرون بحذر وبتشكيك حيث وصفها الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض ب "الأسلوب المخاتل الذي يتحاشى بسط معضلة التنمية الجهوية على مائدة الحوار الوطني الصريح والشفاف" لكن المؤكد أن الإعلان عن ذلك القرار – على أهميته - لم يكن كافيا لوضع حد للتظاهرات الاحتجاجية، التي ازدادت حدة بالقرى المحيطة بمركز الولاية. أمام هذه التطورات النوعية والخطيرة، خاصة بعد مقتل أحد الشبان، تحركت بعض الصحف في الاتجاه الإيجابي ولو بحذر شديد، مثلما فعلت صحيفة "الصباح" التي نشرت (بعد أسبوع من اندلاع الأحداث) تحقيقا ميدانيا مختلفا في أسلوبه نقل جزء من أوضاع الجهة وردود أفعال بعض أبنائها. كما قررت السلطة أيضا، وبعد قطيعة دامت سنوات، أن تسمح لأحد أعضاء الحكومة بالرد على أسئلة قناة الجزيرة. وجاء حديث المسؤول الحكومي هادئا وواقعيا إلى حد ما، حيث أقر بوجود مشكلة حقيقية سواء فيما يتعلق بوجود خلل في منوال التنمية بجهة سيدي بوزيد أو فيما يخص ارتفاع نسبة البطالة بها. كما أقر في مداخلته بأن "الحوار هو الكفيل بتجاوز الأزمة". في السياق نفسه، تجنبت قوى الأمن الدخول في اشتباك مع النقابيين الذين تجمعوا صباح يوم السبت 25 ديسمبر أمام المقر الرئيس للاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية الوحيدة في تونس)، وسمحت لهم بالتجمع والتظاهر، وإن وضعت طوقا أمنيا حولهم لمنعهم من تجاوز المنافذ المؤدية إلى الشارع الرئيسي بقلب العاصمة. وفي يوم الأحد 26 ديسمبر، انتهجت السلطات نفس الأسلوب مع تجمعات نظمها النقابيون أمام مقرات فروع الإتحاد في عدد من المدن الداخلية من بينها بنقردان ومدنين ونابل والقيروان وبنزرت وسليانة وصفاقس. ثغرة متفاقمة وحلول مطلوبة ليست هذه المرة الأولى التي تندلع فيها خلال سنة 2010 حركة احتجاجية ذات طابع اجتماعي في تونس. فخلال شهر أوت الماضي، حصلت مواجهات لا تقل حدة بجهة بنقردان الواقعة على الحدود التونسية الليبية. وقبل ذلك بحوالي ثلاث سنوات (من 5 جانفي إلى منتصف يونيو 2008) عاشت منطقة الحوض المنجمي (جنوب غرب) حالة تمرد استمرت أشهرا عديدة. كما سجلت في نفس السياق احتجاجات محدودة في مناطق أخرى مثل فريانة والصخيرة وجبنيانة، وهو ما دفع أطرافا مختلفة في اتجاهاتها السياسية إلى الإجماع على ضرورة إعطاء الأولوية للمناطق المحرومة. المؤكد أن تعدد الاضطرابات ببعض المناطق داخل البلاد التونسية في فترات متقاربة أصبح يعكس ثغرة في السياسة الاقتصادية لحكومة نجحت طيلة المرحلة الماضية في تأمين الجبهة الاجتماعية. كما أن مثل هذه الأحداث إذا ما تكررت واتسعت رقعتها سيكون لها بالضرورة تداعيات على الصعيد السياسي. ورغم اتهام السلطة خصومها باستغلال هذه الأحداث "لأغراض سياسية غير شريفة وربطها بغرض التضليل والإثارة بحقوق الإنسان والحريات"، فإن مختلف هذه الاضطرابات اندلعت بشكل عفوي، ولم يكن وراءها أي طرف سياسي مهما كان لونه واتجاهه. فدوافعها اجتماعية بحتة، وتطورت بعيدا عن دوائر المعارضة التي وإن دعمتها سياسيا إلا أنها لم تتمكن من الإلتحام بمكوناتها لاعتبارات ذاتية وموضوعية. كما أن هذه الأحداث تمكنت في الغالب من صنع رموز محلية، تولت تأطيرها وتنظيم صفوف الذين انخرطوا فيها. وغالبا ما أسهمت عناصر نقابية من القيادات الوسطى أو المحلية في ذلك، سواء لتوجيه الحدث، أو قيادته، أو التحدث باسم الأهالي مع الجهات الرسمية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، أو العمل على تخفيف حدة المواجهات، أو القيام أحيانا ببعض الوساطات. كل هذه العوامل تُضفي قدرا عاليا من الخصوصية على هذه التحركات، نظرا لارتباطها اللصيق بواقع الجهات التي أفرزتها. وهو ما يفرض على السلطة - بحسب العديد من الأطراف السياسية والإجتماعية والحقوقية - استخلاص الدروس الضرورية، وفي مقدمتها تجنب المعالجة الأمنية، والتصدي بشجاعة للأسباب العميقة لهذا القلق الاجتماعي المتزايد، والعمل على جسر الهوة المتزايدة بين الجهات والفئات، والسعي لتشغيل الشباب وفي مقدمتهم حاملي الشهادات العليا، مع رفع سقف الحريات، والدخول في علاقة حوارية مع هذا الجيل الجديد الراغب في تحقيق مطالب مشروعة.