بقلم: الشيخ أبو إسماعيل خليفة أيها الأعزاء: بعد أيام قلائل.. وفي أطهر البقاع، في منى وعرفات يلتقي البشر من مختلف أنحاء العالم، ينصهرون جميعا في بوتقة الإيمان والتعبد والتضرع إلى الله عز وجل، يتوافدون رجالا وركبانا من كل فج عميق، في أعظم رحلة يقوم بها المسلم في حياته لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.. ونحن هنا.. وأعناقنا تشرئب إلى المسجد الحرام، ونتابع في خشوع ما يدور هناك، وما سيكون في منى وعرفات، وتكتحل عيوننا برؤية جموع الطائفين والقائمين والركع السجود، وتصل إلى أسماعنا هتافاتهم بالتلبية حتى أعماق قلوبنا.. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك... وإننا لنسعد، والحجيج زوار بيت الله الحرام، تترى أخبارهم وهم يقومون بهذه الشعيرة بكل حبّ وإيمان وتجرّد، بما تنقله لنا وسائل الإعلام في رسائلها المبثوثة والمصوّرة، وإننا لنمدّ أبصارنا وأفكارنا لنستعيد الكثير الكثير من الصور المتعلقة بهذا الركن.. وأهمّها وأجلّها وأعظمها على الإطلاق صورة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي سعدت به الدنيا ثلاثا وستين سنة، وها هو يحج حجة الوداع، تلك الحجة التي قام بها صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فعلّم الناس مناسكهم وبيّن لهم سنن حجهم، وألقى خطبته الجامعة في عموم المسلمين.. إنه اليوم يلمّح بالرحيل بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وغرس الإيمان في قلوب من آمن به لينشروا دين الله بعده، إنها كلمات مضيئة، وعبارات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع الدنيا، وعليها أن تسمع، لقد استنصت الناس، وأمر واحدا من الذين كانوا يقفون إلى جواره أن يردّد ما يقول، وليردّد ثالث ورابع، حتى يصل كلامه إلى أبعد الحجيج مكانا، وكانوا مائة ألف أو يزيدون، وقف الجميع وكأنما على رؤوسهم الطير، ما بين معجب ومشرئب بعنقه وواجم، وخاصة عند ما قال: "أيها الناس: اسمعوا أبين لكم، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا...". أنصت الناسُ طويلا، وفكّروا مليّا، وجذبتهم بقوة هذه العبارة، وساد الصمت والقلق ودمعت العيون، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يتحدّث كعهده دائما بكل الحبّ والصدق والإخلاص... هذا ما جاء في خطبة الوداع.. وما أسعدني اليوم.. وأنا أكرّر هذه الخطبة، كما كرّرها يومئذ ربيعة بن أمية بن خلف وراءه، وكما جاءت في كتاب سيرة ابن هشام رحمه الله في الجزء الرابع صفحة 250 وما بعدها.. قال ابن إسحاق: وخطب النّاس خطبته الّتي بيَّن للنّاس فيها ما بيّن، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إلى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ "إنما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ"، (سورة التوبة آية3637 )، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَاعْقِلُوهُ؛ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟"، قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ ".. أيها الأعزاء: لقد كانت خطبة الوداع والتي تخللت شعائر الحج لقاءً بين أمة ورسولها؛ كان لقاء توصية ووداع، توصيةَ رسول لأمته، لخّص لهم فيه أحكام دينهم ومقاصده الأساسية في كلمة جامعة مانعة، خاطب بها صحابته والأجيال من بعدهم، بل خاطب البشرية عامة، بعد أن أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة ونصح للأمة في أمر دينها ودنياها. والعالم الإسلامي يمر بالمرحلة التي تعرفون، فإن الإيمان والعقل والوعي والخلق القويم، يفرض علينا أن نستفيد من هذه الخطبة.. فيا لو عمل المسلمون بهذه التوجيهات الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لسادوا ولأصبحوا أقوى الشعوب قوة، ولكن.. يا أسفاه.. ليتهم يدركون عند تأملّهم قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس"، ولم يقل: "يا أيها الذين آمنوا"، فإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدل على يقظته صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي على الناس يوما يتّهم الإسلام بما ليس فيه، وأكّد ذلك في أول بند من بنود هذه الخطبة.. وذكر شريعته في المال والدماء، "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم"، وكان البند الثاني والقرار الصارم، هو إماتة الروح الجاهلية في نفوس المؤمنين، فلا فخر ولا استعباد ولا ظلم، فأبعدهم عن ربا الجاهلية والدم، وحذّرهم من التشبيه بالجاهليين، وأعلن في قرار ثالث، وصيته بالنساء خيرا، فأثبت لهنّ ضمانات حقوقهنّ وكرامتهن. وفي البند الرابع وضع صلى الله عليه وسلم القانون الإلهي الذي إن تمسّك به المسلمون نجوا ونجحوا، وكانوا خير أمة أخرجت للناس.. أيها الكرام: هذه أهم خطبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والملقاة في مثل أيامكم هذه، وقد أشهد عليها آباءكم وأسلافكم حين قال كما جاء في رواية صحيح مسلم: "وأنتم مسؤولون عنّي فما أنتم قائلون؟، قالوا: نشهد أنك بلغت رسالات ربك وأدّيت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، فقال: بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء يشير بها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم أشهد، اللهم أشهد". أيها الأعزاء: وفي هذا ما يدلّ دلالة واضحة على أهمية شأن هذه الخطبة، وأهمية العناية بها، وأن الحاجة ماسة إلى معرفتها في حق كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى... رزقنا الله البصيرة بسنته والاهتداء بهديه، وجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمته طريقا وسلما، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين..