بقلم: الشيخ أبو إسماعيل خليفة سعد أناس بأداء فريضة الحج هذا العام فلله الحمد والمنة على ما أنعم به عليهم من إتمام نسكهم وعلى ما يسّر لهم وأعانهم على إكمال هذه الشعيرة العظيمة نسأله سبحانه أن يتقبل منهم وأن يرزقنا وإياهم الاستقامة على دينه إنه جواد كريم. أيها المباركون: لقد بدأ حجاجنا يَقدمون من خير البقاع بغير ما ذهبوا به ويَصدُرون بخلاف ما وردوا يرجعون بوجوه غير التي راحوا بها ويعودون بقلوب غير تلك التي سافروا بها. ها هم يرجعون بإذن الله كيوم ولدتهم أمهاتهم حامدين للسعي المشكور مسرورين بالذنب المغفور (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) جعل الله حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا. وها هم الحجاج عادوا.. ولكن بأي شيء عادوا؟ لقد قدم عَمرو بن العاص من مكة إلى المدينة ليَعرض إسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشّ له المصطفى {صلى الله عليه وسلم} وبشّ وبسط يمينه ليبايعه على الإسلام ولكن عَمراً قبض يده فقال له النبي {صلى الله عليه وسلم}: (ما لك عَمْرو؟!) قال: أردت أن أشترط فقال عليه الصلاة والسلام: (تشترط ما ذا؟) قال: أشترط أن يُغفَر لي فقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما قبلها وأن الحج يهدم ما قبله). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت جالسًا مع النبي {صلى الله عليه وسلم} في مسجد منًى فأتاه رجلٌ منَ الأنصار ورجل من ثقيف فسلَّمَا ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك فقال: (إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت فقالا: أخبرنا يا رسول الله فقال الثقفي للأنصاري: سلْ فقال: أخبرني يا رسول الله فقال: (جئتني تسألني عن مخرجكَ مِن بيتك تؤمُّ البيت الحرام وما لك فيه وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه وعن رميك الجمار وما لك فيه وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة) فقال: والذي بعثك بالحق لَعَنْ هذا جئت أسألك قال: (فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتُكَ خُفًّا ولا ترفعه إلاَّ كتب الله لك به حسنةً ومحا عنك خطيئةً وأما ركعتاك بعد الطواف كعِتق رقبة من بني إسماعيل -عليه السلام وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبةً وأما وقوفك عشية عرفة فإنَّ الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثًا من كل فجّ عميق يرجون جنتي فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات وأما نحرك فمذخورٌ لك عند ربك وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك يأتي مَلكٌ حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى). رواه الطبراني والبَزَّار واللفظ له ورواه ابن حبَّان في صحيحه وهو حديث حسن. فأي فضل عدتم به حجاجنا وأي جزاء أعظم من تكفير السيئات وستر العيوب وإقالة العثرات وأي هدف أسمى وغاية أنبل من غفران الذنوب والتجاوز عن السيئات!! أما إن الربّ ليدنو من الحجيج ويقول لملائكته: (أشهدكم أني قد غفرت لهم). فهنيئًا للمخلصين في حجهم هنيئًا لهم المغفرة والرحمة من الرب الرحيم الكريم. حجاجنا الكرام: ها لقد عرفتم فالزموا وآمنتم بالله فاستقيموا وفتحتم في حياتكم صفحاء بيضاء نقية فحذار من العودة إلى الأفعال المخزية والمسالك المردية أوفوا بما عاهدتم الله عليه من التوبة ينجز لكم ما وعدكم من الأجر العظيم واعلموا غفر الله لي ولكم أن الحج بمنزلة التوبة تعلن في البقعة التي نبت فيها الإسلام فالعودة إلى الركض في ميادين المعاصي لهو نقض لهذه البيعة وهو كالهدم بعد البناء (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه)!!. فهل بعد انتهاء المناسك والعودة إلى الوطن تنتهي الطاعة وينسى ذكرالله؟. أيها الحاج: أعيذك أن تكون كتلك المرأة الحمقاء التي وصفها الله وحذَّر من فعلها فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنْكَاثًا}. سورة النحل 92. فقد كانت تغزل الصوف حتى إذا صار خيوطا قوية عادت ففكَّت غزلها!!. وهذا مثال لمن يبدأ العمل الصالح حتى إذا تكامل وارتفع بنيانه عاد فهدمه وقد كان {صلى الله عليه وسلم} يستعيذ بالله تعالى من تغير الحال فيقول: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور) رواه مسلم. والحور: الرجوع والنقصان. والكور: هو من تكوير العمامة وهو لفُّها وجمعها فاستعاذ {صلى الله عليه وسلم} من النقصان بعد الزيادة. فيا من تقلبتم في أنواع العبادة الزموا طريق الإستقامة وداوموا العمل فلستم بدار إقامة واحذروا الرياء والسمعة فربّ عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية قال بعض السلف: (من سرّه أن يكمل له عمله فليحسن نيته). فاتقوا الله في كل وقت وحين وتذكروا قول الحق في كتابه المبين: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). المائدة: 27 . واعلموا أيها الحجاج أن الحج المبرور له أمارة وعلامة ولقَبوله منارة وشامة سئل الحسن البصري رحمه الله: ما الحج المبرور؟ فقال: (أن تعود زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة). فليكن حجكم باعثا لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الطاعات فإن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). فيا حُجَّاج بيت الله كونوا * على المنهاجِ روَّادًا عِظامًا وتلك العُروةُ الوُثقى شِعارٌ * فلا ترضَوا لعُروتها انفِصامًا أيها الحاج: بعد أن تحققت لك الأمنية وتمّت لك العطية وخرجت بإذن الله من صفحاتك السوداء بصفحة بيضاء نقية ناصعة بهية وأعمال مرضية وروح مرتفعة المعنوية احذر من العودة إلى الدنس والإفراط في الذنوب بلا تفكير بعد النقاء والصفاء والتطهير. أترضى بعد الرفعة والإجلال أن تعيش منبوذا تافها حقيرا فذنب بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها فما أحسن الحسنة بعد الحسنة وما أقبح السيئة بعد السيئة!. فما أجمل أيها الحاج أن تعود بعد حجّك إلى أهلك ووطنك بالخلق الأكمل والعقل الأرزن والوقار الأرصن والشيم المرضية والسجايا الكريمة.! ما أجمل أن تعود حسَن المعاملة لقُعَّادك كريم المعاشرة لأولادك طاهر الفؤاد ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد المُضمَر منك خير من المظهر والخافي أجمل من البادي!!. إن عدت بهذه الصفات الجميلة فحقّاً قد استفدت من الحج وأسراره ودروسه وآثاره. غفر الله لك ولمن استغفرت له وبارك في حجك وجعله من أسباب فلاحك.. جعل الله حجك مبرورا وذنبك مغفورا.. اللهم وسلّم جميع الحجاج والمعتمرين واحفظهم من شرّ كل ذي شرّ اللهم ردّهم إلى ديارهم سالمين غانمين وبالأجر والثواب موفورين اللهم وإن كان للعمر بقية فاجعلنا من حجاج بيتك في العام القادم إن شاء الله.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم..