الشيخ: جلول قسول (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم ) [فصلت: 34 ]. يا ناكر المعروف ويا جاحد النعمة هلا فكرت يوما في وطنك !! بعض الناس ينكرون الجميل ويجحدون النِّعمة - مما يدُلُّ على ضعف وَعْيهم وقلة علمهم وانعدام المروءة لديهم وعدم الوفاء لله - عز وجل _ الذي تفضَّل بالنعمة عليهم نعمة الحرية والاستقلال تراهم يخوضون مع الخائضين ويحاسبون كل الناس إلا أنفسهم ... مما يُسبِّب الإحباطَ لديهم وربَّما يدفعهم إلى تغيير ما كانوا عليه من سلوك وخلق ومقابلة الإساءة بمثلها أو أشد قولاً وفعلاً !!مع من كانت تربطهم قرابة وأخوة واحترام. وقد شكا الصَّحابي الجليلُ إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم ما يَجول في نفسه ويدور في خَلَده من ألَم نفسي فنطق بعبارات وكلمات مُؤثرة تدُلُّ على مدى ما يُعانيه من أسًى وحزن فقال: (يا رسول الله إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويُسيئون إلَيَّ وأحلم عَنهم ويَجهلون عليَّ)[1] فأرشده الحبيبُ إلى دواء وشِفَاء لِما يَحِيكُ في صدره ويَجول في خاطره ولقد انتشرُت بعض العبارات تدُلُّ على مفاهيم خاطئة مُخالفة للعقل والدين مَفادُها أن الصادق المحب المحسن إلى عباد الله لا يُمكنُه أنْ يعيشَ في خِضَمِّ هذه الظُّروف وأنَّ المكانة إنَّما هي لسليطِ اللسان ممن لا ينقطعُ عن الجدال ولا يترك النِّزال ومن لم يكن ذئبًا أكلته الذِّئاب وأنَّ اليومَ لمنطق القوة ولا مَجال فيها للمسامح بل ولا بُدَّ حتى تكون مرهوبَ الجانب مُطاعًا بين الخلق أنْ تقابل السيئة بِمثلها وأكثر وترد الصاع بصاعين عَجَبًا! كيف انقلبت الموازين وتغيَّرت المفاهيم؟! . وليس المقصودُ الإحسانَ إلى من نشر الرعب وأفزع الآمنين وعاثَ في الأرض فسادًا يَمينًا وشمالاً فهؤلاء وأمثالهم يجب دفع شرِّهم كما هو مشاهد في كثير من الدول العربية. مفهوم الإحسان عند الجزائريين الجزائريون لهم ازدواجية في المعايير فالصَّادق المحب للخيروالداعي إليه والذي يصلح بين الناس ويريد بدل الانتقام عفوا وبدل الإساءة إحسانا هذا لا مكانة له مطرود من المجتمع ضعيف غير مرغوب فيه لدى الأحباب وعند الناس أمَّا مَن يُسيء بلسانِه وفعله ومَن لا يَعرف المسامَحة في حياته الاجتماعية ويُحاسب على القليل والكثير وليس في قاموسه الإحسان أبدا وبذل الخير وكفُّ الأذى - فهو مرهوب الجانب يتقرَّب الناس لكسب وُدِّه وعطفه وهذا هو الرجل وكأن الطباعَ تغيرت والأخلاق تبدَّلت وهذا على مُستوى الأفراد وعلى مستوى الأحياء فلا مَجالَ للعفو والتسامُح وأن من يستعرض سير الأنبياء والصالحين يجد أنَّهم ما بلغوا مراتبَ الكمال من العلم والإيمان إلاَّ بصدقهم وبعفوهم وصَفحهم وهو أرفع من العفو لأنَّه بلا معاتبة وإنَّ من أخلاقهم وصفاتِهم العفوَ عمَّن أساء إليهم قولاً وفعلاً وأنَّهم أعطوا دروسًا في التربية الحقَّة على معاني الأخلاق الفاضلة السامية ومنهم سيدنا يوسف - عليه السَّلام - فقد كاد له إخوته حتى هموا بقتلِه ثم ما لقيه منهم من حسد وكيد وافتراء ولكنَّه قابل ذلك كلَّه بالإحسان والعفو بل والدعاء لهم بالمغفرة وكان بإمكانه وهو سُلطان بيده النفوذ والقوة وأمره مطاع - أن يوقع بهم أشدَّ أنواع العقوبة ولكنه عفا عنهم وهو من كمال الإحسان أنْ يعفو عن مقدرة واقتدار فقال لهم بعد اجتماعه بهم: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 91 - 92] وكان عاقبة الإحسان انقلابَ العداوة إلى مَحبة ووُد فكن كيوسف ولا تكن كإخوته أمَّا نبيُّنا الكريم فقد أوذي بأعظمَ من ذلك - صلَّى الله عليه وسلَّم ثم لما نصره الله عليهم قال لهم في أعظم جمع يومِ النَّصر العظيم: ((وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم)) أي برّ وإحسان أعظم من ذلك؟! وهو مما لا يقدر عليه إلاَّ صاحب القلب الكبير ومَن جعله الله رحمةً للخلق أجمعين وفي السيرة النبوية نَماذج كثيرة من عفوه وإحسانه وبره وصفحه وعفوه عن الْمُذنبين ولعلَّ الكثير منا يذكر قصيدةَ كعب بن زهير (البردة)[5] والتي قدمها بين يدي الرسول المعظم وهو يطلبُ الاعتذار عما بدر منه مما يستوجب هدر دمه لكن الرسولَ الكريم عفا عنه بل وجازاه ببُردته الشريفة فأنشده كعب بأبيات بَقِيَ الزمن يرددها دَهْرًا بعد دهر ومنها هذه الأبيات الرائعة: أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا وَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ والرَّسول بذلك يضرب أعظمَ صور التعامُل والمقابلة بالحسنى وما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كلِّ زمان ومكان مع من يُخالفهم في المعتقد الإحسان إلى المسيء أمر صعب وكيف لا يكون صعبًا وأنت ترى مَن يظلمُك ويسيء إليك قولاً وفعلاً ويَحسُدك على ما آتاك الله من فضله ونعمه ويتمنَّى زوالها عنك وأنت تقابلُه بالحب والوُدِّ وكف الأذى بل والإحسان إليه وصلته بل والدُّعاء مع قدرتك على الثأر؟! ولا يصبر على هذا الخُلُق العظيم إلاَّ صاحب قلب رحيم ومن جعل حبه وبُغضه وعطاءه ومنعه لله _ سبحانه - فهو يتنازل عن حقه لحق الله إنْ كان الأمر يتعلق بشخصِه وحقِّه وهو حال الكُمَّل من عباد الله . ونقل لنا التاريخ الإسلامي نماذجَ رفيعة في التسامُح والعفو سطرت بأحرف من نور في التسامُح الفَردي والتنازُل عن الحق الشخصي لمرضاة الله: ما نقل عن الأئمة والفقهاء والصالحين إنَّ المسلمين أحوجُ ما يكونون اليومَ إلى إظهار سَماحة الإسلام وفق مَبادئه والتعريف بمبادئه السَّمحة من خلال: التعمُّق في الثَّقافة الإسلامية خاصَّة في أيامنا هذه التي كثر الحديث فيها عن كل ما هو سيئ ومفسد للحرث والنسل واختفى معالم الإحسان والعفو بين المجتمعات وأصبحت تروج لمفاهيم خاطئة فالناظرإلى المسلمين اليوم من خلال سُلُوكهم وتصرُّفاتِهم لامكانة للرفق والإحسان لديهم واستعمال الرِّفق والدعوة بالحكمة ومُقابلة السيئة بالغُفران بالكلام فقط!! إذا أراد المسلم الجزائري أن يكون من المؤمنين حقا ومن المحسنين صدقا عليه أن يتخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه فالله يتحبب إلى عباده بالبِرِّ والإحسان والمغفرة وهم يقابلونه بالمعاصي وعدم شكر النعمة. أنْ يعلمَ العبد أنَّ ما يُصيبه من ذلك إنَّما هو بسبب ذنوبه فلْيَتُب وليستغفر أنْ يتعوَّد المحسن عدمَ انتظار الشُّكر من أحد فالخلق لا ينفعونه ولا يَضرُّونه بل الأمر لله وَحْدَه خلق الله العباد ليذكروه ورزق الخليقة ليشكروه اللَّهم وفقنا لهداك واجعلنا ممن يقابل السيئة بالغُفران والإساءة بالعَفو والإحسان وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها آمين يا رب العالمين.