بقلم: ميزر كمال ما يزالُ رأسي مثقلاً بالحرب مثقلاً بالجثثِ المتفحمة في الدروب وبين أزقةِ المدينة الضيقة يا إلهي تلك الجثّة المتفحّمة فوق الرصيف كأنّها شامةٌ قبيحةٌ على وجهه أصبحت طعام الدود والذباب والقطط السائبة وموضوعاً مثيراً لمصوّر الحرب الذي يتقن تصوير موتنا موتنا يا إلهي طنينُ الذباب يثقب أُذنيَّ ويدغدغ حزني ويدفعني إلى ضجري اليومي رأسي مثقلٌ بالمدينة الموحشة ودروبها التي صارت كلّها تفضي إلى الموت مثقلٌ بأحيائها القديمة المشوّهة بالخراب وبيوتها الخالية إلا من أشباح الخوف وأصداء الفراغ مثقلٌ رأسي بحكايا الحرب وصرخات الضحايا وهم يُقذفون إلى موتهم خائفين.. خائفين أحاول انتزاع تلك الصور من رأسي فتتشبَّث أكثر وأتذكّر أكثر أتذكر وجه الولد الذي قُتِلَ توَّاً وأُلقيَ جسدهُ على كَتِفِ طريق تُرابية ما يزالُ خيط الدم المندلقِ من زاوية فمه اليسرى حارّاً أتذكر الورقة التي كُتِبَ عليها خائن تغطي صدره المثقوب بالرصاص نديةً بدمه أتذكر هُويَّته واسمه الثلاثي واسم أُمّه التي أنجبته ليكون قرباناً للحرب ووجبةَ عشاء لكلاب الليل مَن الخائنُ مِنّا أيها الولد القتيل؟ أنت؟ ولماذا؟ أم أنا الخائن الذي لا يستطيع أن يواري جسدك اللّين بالتراب خوفاً من العيون التي ترصدنا من بعيد أنت الذي تبدو كجرح في جسد الأرض وأنا الواقف فوقك كأنّي فزاعة للموتى العيون التي رأت آخر توسلاتك وأنت تستعطف قسوتها بانكسارك العيون التي رأت آخر دمعك العيون التي قتلتك أيها الولد أنا أخاف تلك العيون وأخاف أن أصير قرباناً للحرب وعشاءً لكلاب الليل أخاف أن يقف على جسدي ولدٌ آخر فيخاف أن يغطّي وجهي الهادئ بحفنة من تراب هذه المدينة القاسية سأكتفي بدفن ملامحك هنا برأسي أيها الولد القتيل وأحثو عليها تراب ذاكرتي لأعاود نبشها كلَّما راودني هذا السؤال : من الخائن؟ 2 هل تعرفُ ما يؤلمني أكثر يا أبي؟ أن تدّعي أنّك بخير وأنتَ لستَ كذلك أن تقولَ إنَّني بصحة جيدة وصوتك ضعيف ومجروح وأنا مَن يعرف صوتَكَ يا أبي قويّاً كأصوات الجنود الذاهبين إلى الحرب شديداً كالأغاني الحماسية ما يزال يملأُ قلبي وأذنيَّ عندما صرختَ بي تلك الليلة لحظةَ أن قضّتْ مضاجعنا الطائرات طائرات الF16: كن رجلاً وأسْرِ بإخوتك في الخندق الخلفي ولا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء.. كنتُ صغيراً حينها أصغر من أن أكون رجلاً يا أبي أتذكَّرُ وقتها أنَّني رفعتُ قلبي نحو السماء قلبي الذي يرتجف راجياً أن تظلّ بخير ويظلّ بيتنا واقفاً وتخطِئهُ الطائرات ما به صار حزيناً ورقيقاً كصوت ناي؟ ولماذا تخبرني دائماً أنّ بيتنا ما يزال واقفاًّ وأنَّه لم يُسرق ويحرق وأنَّ أحداً ما لم يُفجره! هل عليَّ أن أصدّق ذلك؟ والحرب أكلت المدينة كلّها يا أبي! هل عليَّ أن أصدّقك وأنت تتكوّر في خيمة بعيدة بعيداً عن البيت ونخله وزيتونه ورمانته الصغيرة هل عليَّ أن أصدّق وأنا البعيد عن البيت ونخله وزيتونه ورمانته الصغيرة الحرب تجعلنا نكذب بشأن ما نملك يا أبي وبشأن ما فقدناه عليَّ أن لا أصدّقك هذه المرة يا أبي فأنتَ لستَ بخير وبيتنا كذلك. 3 كعادتي أنا الولدُ الكسول تركتُ المواعيدَ مؤجلةً ورحلت لي موعدٌ مع الفرات كنتُ قد هيأتُ له جسدي وهيَّأ لي طينه لولا أنْ حالَ بيننا قناصٌ غرسته الحرب في رأس الجسر الجسر الذي كتبتُ عنده أولى قصائدي عن الماء فنحره الجند قرباناً للحرب ولي موعدٌ مع البحيرة كنتُ قد هيَّأتُ لها صمتي وبقيَّةً من نعاس الصباح وهيَّأتْ لي ضجيج النوارس والموج لكنَّ خوف أُمّي من طائرات السوخوي الغريبة كان حائلاً دون اقترافي لعزلة عند الشاطىء ولي موعدٌ مع بيتنا القديم كنتُ قد هيَّأتُ له ذاكرةً طفلةً ورَسَلاً من الدموع وهيَّأ لي بابه الذي قضم أطرافه الصدأ بابه الذي أزاحني مترين عن موت تَلقَّفَ أخي طلال وتركَ لنا أحاديثه التي تسردها لنا أُمّي كلَّما تَحسّست قلبها ولولا حظر التجوّل في حيِّنا القديم لكنتُ الآن متكوّراً عند عتبته أمارس طقوسي في التذكر والبكاء ولي موعدٌ مع مجنون الحي كنتُ قد هيّأتُ له فضولي وهيَّأ لي حكمته المجانين لا تعيقهم الأسلاك الشائكة ولا سواتر الجيوش ولا رصاصات الجند التحذيرية وهذه كلها كانت سبباً لأبتلعَ فضولي وأدلف خائباً نحو بيتنا القريب ولي موعدٌ مع المقبرة كنتُ قد هيَّأتُ لها حزني وهيَّأتْ لي قبر صاحبي صاحبي الذي قتله انفجار مركبة ملغمة بينما كان واقفاً يُحصي فراشات الحيّ.. فراشةً فراشة أنا الولدُ الكسول تركتُ المواعيد مؤجلة