قال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172)الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَة مِنْ اللَّهِ وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْل عَظِيم (174)} آل عمران. تشير هذه الآيات وما قبلها من سورة آل عمران إلى حادث وقع للمسلمين صبيحة اليوم التالي لمعركة أحد وهي المعركة التي أرادت قريش فيها أن تثأر لقتلاها في بدر وكانت في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة . خرج فيها رسول الله صلى اله عليه وسلم وأصحابه إلى قريش ووضع فيها الرماة على ظهر أحد ليحموا ظهور المسلمين من خلفهم وأمرهم ألا يبرحوا مكانهم إلا بإذن منه. ودارت المعركة وأرى الله المؤمنين ما يحبون من النصر على قريش حتى ولت قريش الأدبار وسقط لواؤهم وظن الرماة أن المعركة قد انتهت فنزلوا يجمعون الغنائم وقد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاحوا الفرصة للمشركين بقيادة خالد بن الوليد يومها فاعمل السهام في ظهور المسلمين ودارت الدائرة عليهم وقتل منهم سبعون شهيدا وجرح الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من المسلمين. واكتفت قريش بهذا النصر المحدود على المسلمين وقفلوا راجعين إلى مكة وعاد الرسول والمسلمون معه إلى المدينة وباتوا ليلتهم وفي الصباح أذن مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس). فخرج القوم وهم ما بين مجروح وموهوم ومشجوج وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد حتى بلغوا حمراء الأسد مكان على بعد أميال من المدينة فلقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم وأجمعوا أمرهم على أن يأتوا إلى المدينة فيستأصلوا أهلها فقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل). وبينما قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعي وكان قد رأى حال أصحاب النبي وما هم عليه فقال مخوفا لقريش: قد تركت محمدا وأصحابه في حمراء الأسد في جيش عظيم قد اجتمع له كل من كان تخلف عنه وهم قد تحرقوا عليكم فالنجاة النجاة فإني أنهاكم عن ذلك فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقذف الله في قلوبهم الرعب ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصورا كما قال الله تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء}. أي لم يصبهم قتال ورعب وأخبرهم سبحانه أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها غزوة). وفي هذه الآيات يتحدث القرآن عن وما هو مدخر لهم عند ربهم فيعين من هم ويبين خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم: إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول إلى الخروج من كرة أخرى غداة المعركة المريرة. وهم مثخنون بالجراح وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس من المعركة وهم لم ينسوا بعد هول المعركة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم عليه من الجراح. ولكن رسول الله دعاهم وحدهم ليزيل بهم آثار العدوان ويمحو بهم عار الهزيمة ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم فاستجابوا لدعوة رسول الله وهي دعوة الله فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ولم يفتك في عضدهم ما وجه إليهم من حرب إشاعات تستهدف النيل من معنوياتهم أو تنال من صمودهم. بل ظلوا كالجبال الشم الراسيات التي لا تنال منها الريح الهوج بل قالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل) قال الجصاص: ((وفي ذلك تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتكال عليه وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأنا متى فعلنا ذلك أعقبنا ذلك من الله النصر والتأييد وصرف كيد العدو وشرهم مع حيازة رضوان الله وثوابه)). فلم تلن لهم قناة ولم تنحن منهم الجباه ولم تخر قواهم ولم تضعف عزائمهم ولم يتلمسوا طريقا للهرب. ولقد كانت دعوة رسول الله لهم للخروج من أعقاب المشركين تحمل إيحاءات شتى إذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة فاستنهضهم لتعقب قريش كي يقرر في أخلادهم وأذهانهم أن ما حدث لهم ما هو إلا تجربة وابتلاء وليس نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم هم الضعفاء وأن الكرة لهم على عدوهم غدا كما أراد عليه السلام بدعوتهم للخروج أن يعلن لقريش أنهم ما نالوا شيئا من المسلمين حتى لا تغتر بما نالت من نصر وأن يجهض على بقية الغرور في مخيلة قريش وقد تحقق له ذلك على أعدائه. كما أراد عليه السلام بالخروج أن يشعر الدنيا بالحقيقة الكبرى التي ولدت على ظهر الأرض وهي حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها وهي عقيدة التوحيد ولم يكن هناك أقوى من التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم على هذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بما قاله الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم كما أبلغهم عملاء أبي سفيان والمنافقون. إن خروجهم وقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل على ما بهم من جراح كان أعظم برهان على أن الإيمان قد ملأ قلوبهم وخالط لحمهم ودمهم فلم يبق فيهم لغير الله شيء ولقد دعاهم إيمانهم بالله وحده أن يؤمنوا بأن القدر يصيب العزيز وله أجره وأنه يصيب الذليل وعليه وزره فأقبلوا على الموت غير هيابين له حريصون على الموت أكثر من حرصهم على الحياة. هذا ما دعاهم أن يرددوا قول إبراهيم حينما ألقي به في النار وقول محمد حينما تآمر عليه الخصوم من كل حدب وصوب (حسبنا الله ونعم الوكيل).