خلق الله سبحانه وتعالى الخلق وأحصاهم عدداً، ورزقهم من خيره وفضله، فلم ينس من فضله أحداً، فهذا العالم زاخر بالخيرات التي خلقها الله سبحانه وتعالى لسعادة البشرية، كما يقول الله تعالى: »فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ *أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا*وَعِنَبًا وَقَضْبًا*وَزَيْتُونًا وَنَخْلا*وَحَدَائِقَ غُلْبًا*وَفَاكِهَةً وَأَبًّا*مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ« سورة عبس، الآيات من 24 إلى 32. ولو ألقينا نظرةً سريعة على العالم، لوجدنا أن بعض الدول تعيش حياة متخمة وفي رفاهية كبيرة، بينما نجد بلاداً أخرى في أفريقيا، وآسيا وغيرها من الدول النامية تعيش حياة البؤس والشقاء، وتقاسي ويلات الجوع، وهذا هو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وكما قال المفكر الأوروبي برنارد شو، حيث كان أصلع الرأس، ولحيته كثيفة: الرأسمالية كرأسي ولحيتي، كثرة في الإنتاج، وسوء في التوزيع. وعندما نتابع التقارير والدراسات العلمية، ونشاهد وسائل الإعلام، فإننا نرى مئات الملايين يعيشون حياة بائسة، ومجاعة حقيقية، ويحتاجون إلى الغذاء، والدواء والكساء، بينما يلقى الفائض من القمح وغيره من قبل الدول الكبرى في البحار والمحيطات كي لا ينخفض سعرُه العالمي، ولكي لا تستفيد منه الدول الفقيرة، كما تنفق الدول مئات الملايين في شراء وسائل الدمار الشامل للبشرية وإنتاجها. قلت في نفسي: في أيِّ عالم يحدث ذلك؟ إنّه يحدث في القرن الحادي والعشرين، عصر الحضارة الزائفة، عند مخترعي الأقمار الصناعية، وما كان لهذا الأمر أن يحدث، لولا أنَّ البشرية قد انحدرت إلى جاهلية جديدة، وتركت التمسك بالمبادئ الأصيلة وبالعلاج الشافي الذي جاء به منقذُ البشرية محمد عليه الصلاة والسلام، فالعالم اليوم تائهٌ بين شرق وغرب. وهذا يبرهن بما لا يدع مجالاً للشَّك فشل الأنظمة الاقتصادية الوضعية المعمول بها في عصرنا الحالي. إنََّ المال في الإسلام نعمة من النعم، كما قال صلى الله عليه وسلم: _نِعم المال الصالح في يد العبد الصالح_ أخرجه أحمد بن حنبل، ومن المال الصالح تبرع الصحابة لنصرة الإسلام وإطعام الفقراء، ومنه اشترى عثمان بئر رومة، ومنه جهز رضي الله عنه جيش العسرة. والفقر لونٌ من ألوان الابتلاء، فالله يبتلي الإنسان بالفقر والغنى: »فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ« سورة الفجر، الآيتان 15-16، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يستعيذ بالله من الفقر والجوع، حيث ستجد ذلك في الأذكار والأدعية، مثل حديث: _اللهمَّ إنّي أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع_ أخرجه ابن ماجه، وقوله:_اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرِّ فتنة الغنى، اللهم إنّي أعوذ بك من شرِّ فتنة الفقر_ أخرجه البخاري، كما ورد عن ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلاةِ _اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ_، فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ، فَقَالَ أَبِي: أَيْ بُنَيَّ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قُلْتُ: عَنْكَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلاةِ_ أخرجه النسائي. وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:_اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ_ أخرجه البخاري. لقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على قريش بقوله: »لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ« سورة قريش، الآيات 1-4، فنعمة الطعام، ونعمة الأمن من أجلِّ نعم الله على البشريّة، بينما نجد أنَّ الجوع والخوف هو شرُّ ما تبتلى به البشرية، يقول الله تعالى: »وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ« سورة النحل، الآية 112. أما الإسلام، فقد كرّم الإنسان مهما كانت عقيدته، كما أن الله عز وجل جعل الإنسان سيِّد هذا الكون، وأسجد له ملائكته، ونحن نرى يوم طبِّق الإسلام في دولة الإسلام، يوم أن عمَّ نوره الكون، وانتشر العدل على وجه الأرض، نرى أن عامل الزكاة كان يجمع الزكاة فلا يجد فقراء يستحقونها، هذا يدلُّ على حالة المسلمين الطيبة وقتئذ، حتى أنَّ عمر بن عبد العزيز كان يأمر عامله أن ينادي أين الغارمون؟ أين الذين يريدون الزواج؟ وقد يتوهَّم متوهِّم بأن الحالة الطيبة، والمعاملة الحسنة من المسلمين كانت مقصورة عليهم، فنقول: إنَّها ليست مقصورة على المسلمين، بل شملت غيرهم من أهل الكتاب والبلاد المفتوحة. فقد روى أبو يوسف في كتاب الخراج: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر، فضرب عمر عضده، وقال له: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال، وقال له: _انظر هذا، فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، إنَّما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم الفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب. ثم وضع عنه الجزية. هذا مثالٌ واحد من أمثلة عديدة ومواقف مشرفة من مواقف الإسلام العظيمة تجاه الإنسان، فقد وضع الإسلام نظاماً اقتصادياً متكاملاً لحلِّ مشكلة الفقر، لو سار عليه البشر لعاشوا حياة سعيدة، ولما رأينا جائعاً واحداً، فقد حث المسلمين على وجوب الاعتقاد بأنَّ الله هو الرزاق: »وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين« سورة هود، الآية 6، كما أمرهم بجمع المال من طريق الحلال، ونهى عن كنز المال، وحث على الإنفاق في سبيل الله وعلى الفقراء والمساكين، وإقراض المحتاجين وتفريج كروبهم والتيسير عليهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: _ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة_ أخرجه مسلم. وحرَّم الإسلام الربا: »يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ« سورة البقرة، الآية 276، ووضع الكفارات والنذور مساعدةً للفقراء، ووضع الزكاة كحقٍّ للفقراء في مال الأغنياء، قال تعالى: »وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ« سورة المعارج، الآية 24-25، وحثَّ أتباعَه على العمل حتى عند قيام الساعة، يقول عليه الصلاة والسلام: _إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -نخلة صغيرة أو شتلة- فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها_ أخرجه أحمد بن حنبل، ووضع قاعدة لتوزيع الإرث، بحيث يأخذ كلُّ إنسان حقًّه، ودعا أتباعه إلى البذل والإيثار وترك الشّح والبخل والأنانية وحبّ الذات، وبيّن أنَّ المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. فحريٌّ بأبناء أمتنا العربية والإسلامية أن يتعاونوا على حل مشكلة الفقر المنتشرة في مجتمعاتنا عن طريق التكافل الاجتماعي، ومساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء ليعيشوا حياة كريمة طيبة. ونناشد الموسرين بمد يد العون والمساعدة لأشقّائهم المحتاجين لمساعدتهم في توفير ما تحتاج إليه أسرهم، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة خطيب المسجد الأقصى المبارك