صارت المقاهي الملاذ الوحيد للشيوخ خاصة منهم المتقاعدون والذين يفضلونها على المكوث في البيت دون عمل، وكذلك الشباب البطال الذي يجلس في المقهى طيلة ساعات النهار، علّه يلتقي صديقا له أو شخصا يعرض عليه العمل، وحتى الذين يعملون أو يدرسون لا يحرمون أنفسهم من ساعات قليلة يمضونها مساء في الحديث رفقة أصدقائهم ورفقائهم. أما الأحاديث التي عادة ما نسمعها في المقاهي، فهي أحاديث متنوِّعة، وتعبر عن أفكار الشارع، وهو الأمر الذي وقفنا عليه بعد انتقالنا إلى بعض المقاهي العاصمية، والتي كانت ولا زالت قبلة للمواطنين، ومكانهم المفضل. في المقهى الشعبي الملقب ب»قهوة العنقى« والمتواجد بساحة الشهداء، سمي كذلك لأن مغني الشعبي محمد الحاج العنقى كان يفضله على باقي المقاهي، دخلنا والتقينا بعض الزبائن الذين اعتادوا الجلوس فيه لشرب القهوة أو الشاي، أغلب الزبائن كانوا من الشيوخ والمسنين، والذين اعتادوا ولِقدم المقهى الجلوس فيه، وصاروا لا يستطيعون تغييره بآخر، لكن مع ذلك التقينا بعمر، وهو ليس مسنا بل شابا، ولكن دخول المقهى وإمضاء تلك الساعات القليلة بعد العمل أو الدراسة مع الأصدقاء صار كل ذلك عادة بالنسبة له، بل شيئا متوارثا، حيث أن أباه كان يجلس فيها وكان يناديه ليشتري له أو ليطلب منه أية خدمة، وعندما توفي والده، صار عمر يجلس في نفس المكان، ربما بأفكار وأحلام وطبائع مغايرة، إلاّ أنّ المكان صار يعتبر بالنسبة له شيئا آخر. وقال لنا إنّ المواضيع التي يتداولها الشارع هذه الأيام، كلها تتعلق بكرة القدم، وما فعله ويفعله الفريق الوطني، بل إنهم وبعد كل مباراة يلتقون هنا للحديث عن أداء الفريق واللاعبين، وعما إذا كانوا قادرين على تحقيق نتائج إيجابية في المونديال المقبل، وما إن تمر من المقهى بعد كل مباراة حتى تكتشف نتيجة الفريق، حيث يعم السكوت في أرجاء المقهى، ولا تسمع إلاّ انتقادات تنطلق من هنا وهناك، وكأنك تحضر جنازة، أما إذا ربح الفريق الوطني فإنك تلاحظ ذلك كذلك على الوجوه التي تبدي فرحتها وسعادتها بالنتيجة، وقد تقام الأعراس والأفراح إذا ما كانت المباراة حاسمة، وهو ما حدث بعد التأهل إلى المونديال، حيث كنا نشاهد المباراة سويا قبل أن نخرج إلى الاحتفال التاريخي. أمّا سليم فقد أخبرنا بدوره أن المقاهي تعبر فعلا عن الشارع العاصمي، عما يريده وعن أحلامه وأمانيه وطموحاته، بل وحتى معيشته وواقعه، حيث ورغم كونه مقهى شعبيا فإن الكثير من الأشخاص المحترمين، أو على الأقل الذي يستطيعون أن يرتادوا أماكن فاخرة، إلاّ أنهم يأتون إلى هنا لأنهم وببساطة أبناء الحي ولا يجدون الراحة في مكان غير المقهى الشعبي الذي ألفوه، ربما منذ الصغر، فترى البعض يتاجر في المقهى، هذا يبيع سيارة وآخر يتفق مع صاحبه على العمل عنده أو شراء بيت، وهناك حتى من يفاوض على معاملات بأموال طائلة داخل المقهى الشعبي، فكل من يريد الاتفاق على شيء ما يقول لصاحبه:»أرواح للقهوة نشربو حاجة ونتفاهمو بعقلنا«. كما عثرنا على حسين في مقهى شعبي آخر بباب الواد، هذا الشاب الذي تمت خطبة أخته في المقهى، حيث تقدم شاب من الحي وعرض على والده أن يزوجه بها، هذا قبل أن تتم الخطبة والزواج، ولهذا فإن المقهى يمثل الكثير بالنسبة له، ويرمز إلى بعض الذكريات الجميلة، ولم يخف علينا حسين أنّ المقهى يذكره كذلك بأصدقاء كان يجلس إليهم فيها، والذين توفي بعضهم وهاجر البعض الآخر، وقد ترك كل واحد منهم أثرا في المكان الذي اعتاد الجلوس فيه.