** هل يوجد في الإسلام ما يمنع من قبول الاستفتاء الشعبي وسيلة لاعتماد الأمور العامة للدولة؟ * يجيب على هذا التساؤل الدكتور فهد صلاح مدرس الفقه وأصوله بجامعتي الأزهر والطائف: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الشيخ القرضاوي فيما إذا اختلفت الآراء في القضايا الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي: إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح· والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: "إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"· وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما"· إذ معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى)· كما رأينا -صلى الله عليه وسلم- ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحُد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخلها في الطرقات· وأوضح من ذلك موقف عمر في قضية الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدًا منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة، اختاروا مرجحًا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف· وقد ثبت في الحديث التنويه "بالسواد الأعظم" والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم، حديث رُوِي من طرق، بعضها قوي· فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد· ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه· وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة عندما تتساوى وجهات النظر· (انظر: الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري)· وقد ذكر الدكتور عبد الحميد الأنصاري في كتابيه (الشورى وأثرها في الديمقراطية) و(الشورى بين التأثير والتأثر) مؤيدات شرعية أكثر من التي ذكرها الدكتور القرضاوي، ونقل عن غيره في كتابه الأخير مؤيدات كثيرة، وأنا أخالف في حشد هذه المؤيدات، لأنها تحاول جميعا أن تضفي قوة وصحة وشرعية على رأي الأكثرية، فتجعله أقوى وأصح وأكثر شرعية من رأي الأقلية، ولسنا في حاجة إلى هذا، بل والواقع ربما عارضه، فليس رأي الأغلبية دائما هو الأقوى والأصح والأكثر شرعية، فربما كان رأي الأقلية أفضل وأصح منه، وكل الذي نحتاجه هو ما يدل من الشريعة على جواز هذه الآلية لاتخاذ القرار في المسائل الخلافية، أو بمعنى أدق، نحتاج أن نطمئن إلى عدم وجود ما يمنع من اتخاذ هذه الآلية من الشريعة· وليس علينا بعد ذلك أن نطمئن إلى أن رأي الأغلبية هو الأصح أو الأقوى· وهذا موجود في الشريعة، فلم نجد فيها ما يمنع اعتمادها وسيلة لحسم الآراء الخلافية، بل أكثر من ذلك، وجدنا ما يؤيدها إذناً وممارسة، أما الإذن الذي يبلغ مبلغ الأمر، فقوله تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى/38]" ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجزم بأمر فيما لم يوح إليه إلا بعد استئذان أصحابه، ويروى عن أبي هريرة أنه قال: "ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وإننا نلحظ في السيرة النبوية، ما يؤيد هذا المسلك الذي ارتضيناه، من أنه الأخذ برأي الأكثرية في الأمور الخلافية هو الحل الأمثل لحسم الخلاف بغض النظر عن صحة رأي الأكثرية متى كانت الأمور المتنازع عليها بعيدة عن النصوص القطعية والصريحة، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه للخروج لمواجهة قريش يوم أحد، فأشاروا عليه بالخروج، وكان رأيه البقاء في المدينة، ونزل على رأيهم مع استظهاره لخطئهم، ثم رأيت هذا المعنى عند الشيخ رشيد رضا- رحمه الله- في تفسيره، فحمدت الله، قال: (فإن قيل): وما حكمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله، وهو أرجحهم ميزانا وأقواهم برهانا، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم؟ قلت: لبيان أن الجمهور قد يخطئون ولاسيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة، ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى من العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة، لا أنهم معصومون فيها· وقد ساق رحمه الله حكما أخرى· الخلاصة: الذي يظهر لي أن الشريعة الإسلامية لا تمانع في اعتماد هذه آلية الاستفتاء، لأنه لا يوجد أفضل منها لحسم الخلاف، فإذا اختلفت الآراء، فليس رأي إحدى الطائفتين بأولى من رأي الأخرى إلا أن يمتاز رأيها بالكثرة العددية، فحينئذ يكون رأي الأكثرية أولى في الإمضاء من رأي الأقلية· والله أعلم· * ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما"· إذ معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى)· كما رأينا -صلى الله عليه وسلم- ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحُد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخلها في الطرقات·