في ذكرى رحيل كونفوشيوس الجزائر(عبد الحميد مهري): بقلم :جمال نصرالله * تواجد الحنكة لدى أي شخص حسب علماء النفس يفسرها منحيان الأول هو أنها هبة ربانية يبعثها فيمن يشاء والثاني هي أنها مكتسبة أي تُتكون وتتبلور مع مرور السنين وتراكم التجارب حتى تُنعت فيما بعد بالخبرة الجليلة والأكيد أن الصفة الثانية هي الأقرب لوضع شخصية كالمرحوم عبد الحميد مهري فيها. دون إهمال نيله الجزء الأكبر من الأولى لأنه حتى المواهب في حد ذاتها تتطور وتُصقل بالمتابعة والإستمرارية والتطعيم المعرفي...فقد كان منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية القرن ال21ملهم الكثير من المثقفين والمتابعين من أصحاب الرأي كونه كان وظل صاحب خطاب مقنع وتشعر وأنت تستمع إليه بأنه صاحب شخصية كاريزماتية قوية يتحدث بثقة تامة في النفس.وهذا عكس الكثيرين خاصة من الساسة الذين كانوا يتحدثون ولا يعرفون إلى أين هم ذاهبون بمستمعيهم إلى أن يسقط الجميع معهم في متاهات مظلمة يوم تختلط عليهم المصطلحات وتتشابك أمام رؤاهم الإتجاهات والرؤى ثم يتيهون هم أنفسهم بشحمهم ولحمهم قبل توهان مشاهديهم. مرت مؤخرا ذكراه الثامنة أي قبل نهاية جانفي2012 وقد اجتمع في أكثر من منبر عدد وفير من رفقاءه أو حتى من معارضيه ليعترفوا بحجم الفراغ الذي تركه هذا الرجل النابغة فقد شبهه رئيس الحكومة الأسبق عبد العزيز بلخادم بدينامو السياسة في الجزائر وأنه كان سابقا لعصره وهذه نقطة مهمة تعني فيما تعنيه أن الأفكار النيرة كانت تولد عنده هكذا على السليقة دون تكلف أو إجهاد لأنه صاحب خزان دائم النبض والعطاء. ولا مناص له من الخجل او الارتباك والشيء الذي لا يعرفه الكثيرين هو أن المرحوم مهري كان قارئا نهما لذخائر وأمهات الكتب .وهذا ما ممكنه وساعده على تمتين رصيده المعرفي.زيادة على تقربه ومعرفته لعدد لا يستهان من المثقفين سواء في الدول العربية أو هنا في الجزائر... والسابقين لعصورهم من المفكرين يعني دائما وأبدا ممن يحوزون على سمات العبقرية المبكرة لأنهم يستشرفون الأحداث ويتنبؤون لحدوثها...هذه الرحابة من الأفكار جعلت مهري دائما وأبدا رجلا يجنح للسلم.....وهذا ليس ضعفا منه أو جبنا بل ناتج عن إيمانه القطعي بأن المحبة دوما هي الفيصل الأخير في تقارب الأفكار والأشخاص .وأن نهاية أي صراع لابد أن تنتصر فيه الإنسانية ولا شيئا غيرها .فقد كان أول من دعا إلى الحواردون إقصاء أو استثناء وأنه كان رجلا ديمقراطيا على حد قول بلخادم وموسوعة تنتج المصطلحات والمفاهيم... ومحسن لتوظيفها زمانا ومكانا.عكس كثير من المحللين السياسيين الذي همهم الوحيد هو الإستعرض العضلي في ذكر المصطلحات دون وضع أهمية فهمها أم لا ؟ا نقطة أخر يجب أن ننتبه إليها وهي أن المرحوم مهري مهما كان محسوبا على الحزب الحاكم آنذاك(جبهة التحرير) فقد كان يبدو دوما مستقلا في أفكاره وينحو غالبا نحو عدم التحزب.تغلب على شخصيته صفة المفكر المثقف والمستقل بل قل الكاتب الحر...وهذه ضرورة ملحة يتسم بها معظم حملة الهم الفكري والاجتماعي(وقد كان أول من استعمل مصطلح السلطة الفعلية في إشارة إلى سلطة الأمر الواقع بعد توقيف المسار الانتخابي) وكان يرفض استعمال مصطلح إرهاب بل يصفه بال (العنف السياسي) وهذه دبلوماسية صرفة تجذب العقول والنفوس بل تجعل الجميع في صفها. وحسب متتبعيه فقد تألم صاحبنا كثيرا يوم تم وصفه بالخائن حينما شارك في ندوة سانت ايجيديوعام1995بإيطاليا. لأن ذهابه للمشاركة كان نابع من كونه رجلا ظل دوما يبحث عن الحلول السياسية. والتعامل مع المسائل مهما كانت شدتها وصعوبة تفكيكها وتشعبها .أما محمد خوذري فقد وصفه بكونفوشيوس الجزائر(حكيم الصين) لأنه كان بحق فيلسوف السياسة. وهذا هو التعبير المناسب للسياسة الحاكمة والفعلية إن لم يكن صاحبها فيلسوفا بحق وليست خطاباته ديماغوجية أو مجرد كلام فضفاض.ويضيف خوذري بأن مهري رجلا توافقيا يرفض الاصطدام مع الغير سواء مع الأفكار او المواقف.(وهذه نقطة جوهرية تنتم على الروح السمحة المتطلعة إلى نشر الفكر الانساني الذي تناصره جميع الديانات والشعائر)وكان ذا نظرة ثاقبة تصيب الأهداف الحقيقية خاصة فيما يأتي ويلحق ومستشرف بارع للأحداث ومتحدث لبق ورجل حصافة وحذاقة...وهذه السمات كلها والتي أشرنا إليها آنفا لا يمكنها أن تتحقق في مجرد رجل سياسي أي يحوز على حزب أو أحد أعمدته ومؤسسيه لأن كل هذا سهل من ناحية الإجراءات القانونية . بل هو مالك لميكانيزمات الفعل السياسي الراشد الحكيم وديمومته...بعدها يساءل زميله المخلص المؤرخ العربي الزبيري(ماذا لو كان مهري يعيش بيننا اليوم) وشاهدا على نتائج التحولات التي جاءت بعد الربيع العربي بحلوها ومرها وهو من عايش مختلف مراحل الجزائر منذ بدايات الحركة الوطنية والثورة التحريرية واتفاقيات ايفيان وبداية الربيع العربي...نعم ماذا لو كان بيننا اليوم ما الذي كان سيقوله مثلا مع حراك 22فيفري وقبل انتخابات ال12 من ديسمبر....أكيد أنه كان يتدخل وينوّر الرأي العام بأفكاره.بل كان أحد الشخصيات التي يستدعيها سعادته عبد المجيد تبون ويستشيرها مثلما فعل مع آخرين.. إذا نقول في الأخير ما أحوجنا اليوم لمثل هذه الشخصيات التي يلزمنا سنينا وحِقبا حتى نعثر عليها.ونقصد من بمقدوره أن يثقف السياسة ويجعلها في مراتب الخصائص المفيدة للمجتمع والدولة والأمة جمعاء وليس لتحقيق مآرب شخصية ضيقة..أو الدعوة لإحياء بعض النعرات الجهوية والقبلية....والخلاصة أن وراء كل مثقف حقيقي طاقة سياسية خلاقة يستطيع بها تحقيق المستحيلات.كما يجب من جهة أخرى أن يكون وراء سياسي حقيقي طاقة ثقافية وإبداعية تمكنه من إرشاد الأمة والأخذ بيدها دوما نحو الأفضل وتجسيد الطموحات. وهذا ما سوف نلتمسه بحول الله تعالى في جزائر جديدة نسعى جميعا للوصول إليها....وقد أفادنا الحراك كثيرا يوم أبان وبطريقة شفافة الطاقات الحقيقية التي تزخر بها الجزائر.فقط لا بد من توظيفها توظيفا حسنا ومجديا والإستفادة من خبراتها ..حتى لا يأتي اليوم الذي سنبكي عنها مثلما ها نحن نبكي عن عبد الحميد مهري .