بقلم: عبد الحفيظ عبد الحي شاء الله أن يكون عنوان مذكرتي في مرحلة ماستر تخصص تاريخ معاصر (عبد الحميد مهري ودوره في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر)، وتعتبر من أولى الدارسات التي تناولت مسار الرجل قبل الثورة أثناء الثورة وبعد الثورة. توصلت إلى أنه مناضل صلب وطني قومي بجدارة وبشهادة الجميع بل هناك من سماه حكيم الجزائر، ورغم الصعوبات الكبيرة التي وجهناها في الدراسة نظرا لقلة المادة العلمية سافرت إلى العاصمة وقبلها كنت ربطت اتصالا مع البروفيسور مصطفى نويصر من جامعة أبو القاسم سعدالله الجزائر2 0 سابقا ذكره الله بالخير وأطال الله عمره وله جزيل الشكر على كل الدعم الذي وفره لنا ولم يبخل عليا بشيء بحكم العلاقة القوية التي تربطه بالمرحوم عبد الحميد مهري فأول لقاء مع البروفيسور مصطفى نويصر بجامعة بوزريعة استقبلني استقبالا كبيرا لازال راسخا في ذهني حد الساعة ومن ثم وجهنا إلى ابن المرحوم سهيل مهري الذي استقبلنا بمنزله بحيدرة رغم كثرة انشغاله ومدنا بما لديه من معلومات وكان لي لقاء آخر مع البروفيسور مصطفى نويصر بالضبط بالمركز الوطني للدارسات والبحث في الحركة وثورة أول نوفمبر وهو اللقاء الذي كان لإنجاز الفصل الثالث والأخير في المذكرة، وتمر هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل سي مهري، رأيت أن أكتب ولو شيئا يسيرا على عبد الحميد مهري من الصعب أن يتحدث المرء عن قامة كبيرة في المواقف وقامة كبيرة في الأخلاق وقامة كبيرة في القيم والأفكار والمواقف النضالية والإنسانية العالية مثل الراحل الكبير سي عبد الحميد مهري رحمه الله، فقد كان الرجل عملاقا في كل شيء وخصوصا في وطنيته الاستباقية الصادقة هو في مقتبل العمر. كان الراحل سي مهري رجلا يخلق الحدث في أي لقاء يحضره، فلو أنه جلس في آخر صف في أية قاعة حتى دون أن يتكلم فإنه يخلق مع ذلك الحدث حتى بصمته الذي كان يقلق الكثير. مولده ونسبه: في اليوم الثالث من أفريل 1926 ولد عبد الحميد مهري بمنطقة الخروب القريبة من مدينة قسنطينة، وبعد فترة وجيزة من تاريخ ميلاده اضطر والد الشيخ عمار أحمد العطوي إلى الانتقال والاستقرار بوادي الزناتي. فهو من عائلة مثقفة عريقة متأصلة التاريخ، متمسكة بالدين والوطنية. وتميز المنطقة التي نشأ فيها بتجذر مشاعر الرافض للوجود الاستعماري، وبالكثير من النشاط السياسي المأزر والداعم للقضية الوطنية وقد كانت للنشأة العائلية الأثر الكبير على شخصية عبد الحميد مهري، فوالده كان من العلماء في ذلك الوقت، حيث قال عنه عبد الرحمان العقون إنه كان محققا وشاعرا وكاتبا، حيث كانت له عدة كتابات في العديد من الصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت، مثل صحيفة الفاروق الصديق وهي صحف رائدة آنذاك. دراسته ونشأته التكوينية: بدأ دراسته بمسقط رأسه، فدرس بالكتاتيب في المدرسة الفرنسية حفظ القرآن في المكتب الخاص بالقاضي عيسى بن مهيدي وهو أحد أعمام العربي بن مهيدي، تلقى بعدها مبادئ الدين واللغة العربية وقواعدها (النحو والصرف) على يد أخيه الشيخ مولود مهري ليخوض بذلك مهنة التعليم وهو لم يتجاوز سن السادسة عشر. وإلى جانب دراسته انخرط في صفوف حزب الشعب، شارك في تأسيس خلية سرية بواد زناتي، كانت مهمتها التحضير لمظاهرات 8 ماي 1945 حيث كلف بكتابة اللافتات التي رفعت أثناء المظاهرات. وكانت لهذه الأحداث الدور البارز في تحرير مساره، حيث قرر عام 1946، التوجه إلى تونس لمواصلة الدراسة بجامع الزيتونة، وهذا بتشجيع من أخيه مولود مهري الذي تكفل به بعد وفاة أبيه، وأكد أنه درس لمدة سنتين بصفة نظامية وسنتين بصفة انتساب، وفي الزيتونة احتل المراتب الأولى وهناك مازج بين الدراسة والنضال أيضا، حيث أنه كان منخرطا في حزب الشعب ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية وعضو في الجنة المركزية لهذه الأخيرة في 1953 و1954 ليعتقل بعد الثورة بقليل وبعد إطلاق سراحه يلتحق بالوفد الخارجي ويصبح متمثلا لها في سوريا ثم عضو للمجلس الوطني للثورة وفي لجنة التنسيق والتنفيذ، ووزير شؤون إفريقيا في الحكومة الأولى ووزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في الحكومة الثانية وبعد الاستقلال يتقلد عدة مناصب عليا في البلاد. نشاط مهري من 1962- 1995: يمكن تقسيم نشاط عبد الحميد مهري من 1962- 1995 إلى مرحلتين: أولا المرحلة الأولى (مرحلة الانكفاء) 1962- 1980: في هذه الفترة فضل عبد الحميد مهري النأي بنفسه عن الخلافات التي شهدتها الساحة السياسية ولم يتقلد منصبا سياسيا كما أن الرجل يملك تفسيرا لهذه الحالة. التحق عبد الحميد مهري بالمدرسة العليا للأساتذة (ببوزريعة) بأعالي العاصمة بالرغم أن الرئيس بن بلة حاول أن يعطيه منصبا في حكومته إلا أن أنه رفض وقضى فترة طويلة في المدرسة العليا للأساتذة إلى غاية منتصف السبعينيات بعدها استدعاه وزير التربية الوطنية عبد الكريم بن محمود لمساعدته في تسيير شؤون الوزارة وهذا بحكم العلاقة التاريخية بين الرجلين، حيث كانا مناضلين في حزب الشعب الجزائري، قبل مهري المهمة وأصبح أمينا عاما لوزارة التربية الوطنية في تلك الفترة (1965-1976) وهو طبعا منصب غير سياسي وفي سنة 1971 استقال عبد الحميد مهري من الأمانة العامة لوزارة التربية مباشرة بعد تعيين مصطفى الأشرف، وبعدها عاد لمديرية دار المعلمين ببوزريعة. ثانيا المرحلة الثانية (مرحلة العودة) من 1980- 1995: بعد وفاة الرئيس الهواري بومدين ومجيء الشاذلي بن جديد استدعاه هذا الأخير لتولي منصب وزير الإعلام والثقافة، فقبل عبد الحميد مهري هذا المنصب لفترة قصيرة من 1979- 1980 ثم عاد إلى نشاطه في حزب جبهة التحرير الوطني وبقي مناضلا إلى أن انعقد المؤتمر الرابع وهو أول مؤتمر بعد وفاة الرئيس هواري بومدين حيث عين عضو لجنة مركزية ورئيس للجنة التربية والتكوين من 1981- 1984 وبعدها عينه الرئيس الشاذلي بن جديد سفيرا في الرباط وقبلها بباريس في هذه الأخيرة ربط علاقات وصلات بكثير من المناضلين العرب التي كانت تعج بهم باريس في الثمانيات على رأسهم صديقه الحميم ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ومحمد البصري وكانت هذه اللقاءات تتم بمقر السفارة الجزائريةبباريس، أفضت هذه اللقاءات إلى طرح مشروع فكري هدف إلى النهوض بالأمة العربية لكن الموت المفاجئ لميشال عفلق جوان 1989 أوقف المشروع. أمين عام جبهة التحرير الوطني 1988 - 1996: على إثر أحداث 5 أكتوبر 1988 استنجد الشاذلي بن جديد بعبد الحميد مهري لتسيير شؤون جبهة التحرير الوطني والمعنية الأولى بتحولات المرحلة ومستجدات الظروف وافق مهري على طلب الرئيس، حيث يقول العديد من إطارات جبهة التحرير الوطني حيث عايشوا الرجل في مسيرته النضالية أن مهري عمل جاهدا بعد تسلمه الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني سنة 1988 على وضع برنامج هيكلي تنظيمي للجبهة بهدف عصرنتها وتحديد هويتها لحزب له مرجعياته وأهدافه ليجعل منه حزبا حقيقيا وليس واجهة للسلطة كما اجتهد عبد الحميد مهري لجعل الأفلان قوة شعبية تستمد شرعيتها من الشعب وتكون قوة سياسية مراقبة لعمل الحكومة والنظام تطرح البدائل وتملك الاختيارات لقد تجسدت فلسفة عبد الحميد مهري التنظيمية والهيكلية في جملة من المواقف المشهودة فتمحوروا حول عنوان عريض وهو علاقة الأفلان بالسلطة. هل هي علاقة احتواء أم علاقة واقع برغماتي تفرضه المتغيرات السياسية؟ هل يملك الأفلان سلطة قراره أم هي مصادرة من طرف السلطة؟ هذه المحددات التنظيمية والسياسية كانت لها صداها العميق في الساحة السياسية وخلقت هزات ارتدادية في دواليب النظام. لقد أبدى الرجل تمسكه باستقلالية الحزب ودافع عن التعددية الحزبية ودعا لتكريس الإرادة الشعبية، لقد كان عبد الحميد مهري يهدف من خلال هذه السياسة إلى رد الاعتبار لجبهة التحرير الوطني التي فقدت الكثير من قواعدها في خضم الصراع السياسي الذي وقع من 1990-1991. بعد توقيف المسار الانتخابي كان مهري من أشد المعارضين لهذه العملية واعتبارها انقلاب على الشرعية ورفض فكرة إخراج الجيش إلى الشارع لمواجهة أزمة هي بالأساس سياسية وليست أمنية حاول إجراء مصالحة حقيقية بين الأطراف وإيجاد مخرج سياسي للأزمة التي تهدد البلاد هذه المواقف أدت بالأطراف الرافضة للعملية السياسية للانقلاب على عبد الحميد مهري عن طريق ما يعرف بالمؤامرة العلمية والتي أدت إلى تقديم عبد الحميد مهري لاستقالته سنة 1996. موقف عبد الحميد مهري من القضايا القومية: لم يكن الراحل سي عبد الحميد مهري متعاطفا تجاه الروابط القومية كما يفعل الكثير بل تجاوز الجميع مكرسا حياته بالتفكير في خدمة الصمود والنهوض بالأمة العربية فكان للمرحوم عبدالحميد مهري موقف ميزه عن كل المساندين والداعمين والمؤيدين للشعب الفلسطيني.. لقد انتقل الأستاذ من موقع المساندة إلى موقع القيادة.. من موقع التأييد إلى موقع التفكير.. من موقع الداعم إلى موقع المحرض على الدعم.. فكان مهموما بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب جميعا.. فكان ضيفا دائما في ملتقيات الفكر العربي مهموما بالبحث في قضايا الوحدة والنهضة والحرية ولم يتخلف عن موعد قط، متدخلا ومحاضرا، محذرا ومنبها ودالا على سبيل الخروج من المأزق.. كان حضوره يشيع في الحاضرين الأمل والجدية والحيوية.. فكانت العروبة عنده مشروعا للنهضة والحرية والوحدة.. رحم الله فقيد العروبة سي عبد الحميد مهري نعى المؤتمر القومي العربي أحد كبار مؤسسيه وأمينه العام منذ 1995 _ 2000 المجاهد الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري الذي توفي ظهر يوم الإثنين في 30/1/2012، في المستشفى العسكري في الجزائر. وفيما يلي نص نعي المؤتمر: خسرت الأمة العربية والإسلامية مجاهداً كبيراً من مجاهديها، وقائداً بارزاً وسياسياً حكيماً صافياً نقياً من سياسييها، هو الأمين العام السابق للمؤتمر الأستاذ عبد الحميد مهري عن ستة وثمانين عاماً. لقد أفنى عبد الحميد مهري عمره في الكفاح من أجل تحرير بلاده ونصرة قضايا أمته، فانتسب في شبابه إلى الحركة الوطنية الجزائرية (حزب الشعب)، ليصبح بعد سنوات من مؤسسي جبهة التحرير الوطني الجزائري التي أطلقت الثورة الجزائرية في 1/11/1954، وليصبح في أوائل التسعينات، زمن التحول الديمقراطي الأول، أميناً عاماً للجبهة، بعد أن شغل مناصب وزارية ودبلوماسية في حكومات الثورة، كما في حكومات الاستقلال. لقد عرفنا الراحل الكبير مؤسساً في المؤتمر القومي العربي، ومرشداً وموجهاً وحكيماً في الأزمات الصعبة، كما عرفناه قيادياً شجاعاً لا يجامل في حق، ولا يساوم في مبدأ، ولا يهادن في قضية عادلة، مستعداً لتحمل المعاناة والتضحيات والحصار في سنوات عمره الأخيرة، كما تحمّلها بكل بسالة في أيام الثورة الطويلة. كما عرفناه عقلانياً في مواقفه، رصيناً في أحاديثه، مفكراً يلهم السياسيين، وسياسياً يغني المفكرين، فقلّما خلت ندوة من مداخلة مميّزة، أو من تعقيب ذي أثر بالغ، وقلّما خلا محفل شارك فيه من بصمات فكره وتحليلاته ومواقفه. لم تخسر الجزائر وحدها في غياب عبد الحميد مهري، ولم يخسر فقط المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي _ الإسلامي، والمؤتمر العام للأحزاب العربية، ومركز دراسات الوحدة العربية، وكافة الملتقيات العربية والدولية الرجل الحاضر بعقله الراجح، ورأيه الرشيد، وإنما خسرت الأمة كلها أحد رجال نهضتها واستقلالها، وأحد رموز كرامتها.