بقلم: إبراهيم نوار* ما يزال الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته في 20 جانفي المقبل يحاول لعب دور الضحية رغم تثبيت المجمع الانتخابي لسقوطه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وفوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن بالرئاسة للفترة حتى 2024. دونالد ترامب لا يكف عن التعامل مع المنصب الرئاسي وكأنه لعبة يلهو بها طفل انتزعت منه عنوة بينما هو يعوي ويصرخ يريد استرجاعها. ترامب قدم خلال رئاسته وبعد هزيمته النموذج الأشد فظاظة للحاكم الفرد المتسلط الذي لا يحترم القانون ويستخدم سلطته لحماية مصالحة الخاصة والتربح من منصبه وحماية أفراد أسرته وحلفائه من المساءلة. ولذلك فإنه أصبح النموذج الذي يقتدى به لكل الحكام المتسلطين في العالم الذين راحوا يسعون بقوة للحصول على رضاه والتمتع بستر غطائه. إنه الرئيس الذي برهن على أن ما يهمه هو استمراره في منصب الرئاسة والإطاحة بكل من اختلف معه بدءا من وزير خارجيته الأول ريك تيلرسون إلى وزير الدفاع السابق مارك إسبر وأخيرا وزير العدل وليام بار الذي جاء به لتوفير الحماية القانونية له واستخدام وزارة العدل لمصلحة الرئيس وحلفائه فضاق بار بخناقه وقرر الاستقالة ولذلك فإن ترامب يجب أن لا يهنأ بدقيقة واحدة من الراحة بعد خروجه من البيت الأبيض وأن تخضع فترة رئاسته للتحقيق بواسطة لجنة تقصي حقائق فيدرالية كما اقترحت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها يوم 19 ديسمبر الحالي. وربما يعتقد كثيرون أن حرب ترامب من أجل السلطة ستنتهي أو على الاقل ستهدأ مع نقل الإدارة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن في 20 يناير المقبل. لكن ذلك قد يصبح حلما صعب المنال بعد نقل السلطة خصوصا إذا فاز الجمهوريون بمقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا حيث بدأ التصويت فعلا ومن المقرر فرز الأصوات في 5 يناير المقبل. إذا فاز الديمقراطيون بمقعد واحد فإنهم سيحرمون ترامب من تكوين ثنائي مع ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الحالي لقيادة عصابة الأشرار التي يمكنها إقامة حكومة ظل تفسد فترة حكم جوزيف بايدن ويلعب فيها ترامب دور (رئيس الظل) الذي يقود قطاعات من اليمين السياسي المحافظ داخل الحزب الجمهوري ورجال الأعمال أنصار تخفيض الضرائب وتقليص دور الدولة في تنظيم الأعمال إلى أضيق نطاق ممكن وذوي النزعة القومية المتطرفة في الشارع المؤمنين بنظرية تفوق الرجل الأبيض إضافة إلى الرعاع وأنصاف المتعلمين الذين يكرهون المهاجرين والعولمة والليبرالية والنظام الدولي المتعدد الأطراف. يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي إن مبدأ تفوق الرجل الأبيض الذي يردده ترامب هو أحد المبادئ ذات الجذور الراسخة والعميقة في المجتمع الأمريكي وأنه ليس جديدا لكنه يطل برأسه بقوة في فترات الأزمات. وذكر في حوار صحافي قبل الانتخابات الرئاسية أنه يجب عدم الاستهانة بقوة هذا المبدأ المتجذر بين قطاعات واسعة من الناخبين. وتفسر ملاحظة تشومسكي جزئيا سلوك السبعين مليون ناخب الذين صوتوا لصالح ترامب. وقال تشومسكي إن ترامب عندما أدرك قوة وشعبية هذا المبدأ فإنه توسع في استخدامه كورقة رابحة في الانتخابات وفي إدارة النظام السياسي منذ عام 2016. وعلى النهج نفسه أضاف فيلسوف السياسة الأمريكي جوزيف ناي (الابن) الذي صاغ مفهوم القوة الناعمة وقائع تاريخية ومؤشرات اجتماعية وثقافية واقتصادية تؤكد وجود مبادئ المدرسة الشعبوية اليمينية في الولاياتالمتحدة منذ عشرينيات القرن الماضي. وأكد ناي أن محركات قوة الشعبوية اليمينية ستستمر في العمل لأسباب كثيرة. على سبيل المثال فإنه ذكر أن الكراهية للمهاجرين بسبب زيادة البطالة ستزيد لأن فرص العمل ستقل ليس بسبب مزاحمة المهاجرين ولكن بسبب مزاحمة أجهزة الروبوت التي ستحل محل البشر في الكثير من الوظائف خلال العقود المقبلة. كذلك أشار جوزيف ناي إلى أن عوامل الأزمة الاقتصادية وضعف النمو واتساع نطاق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي ستساعد على زيادة الرغبة في التقوقع والتمرد على نظام العولمة. وذكر أن هذه المشاعر المعادية للمهاجرين والعولمة عبّرت عن نفسها عقب الأزمة المالية لعام 2008 فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد (بيو) عام 2010 ان أغلبية الأمريكيين ينظرون نظرة سلبية إلى المهاجرين ويعتبرونهم عبئا على الاقتصاد وليس العكس. ومع ذلك فإن رحيل ترامب عن البيت الأبيض سيفتح مساحة كبيرة للتفاؤل بشأن قدرة التيار الليبرالي العالمي على النهوض واستعادة نفوذه بين الناخبين لكن ذلك سيتوقف على مدى قدرة الرئيس القادم في البيت الأبيض على تقديم سياسات مبتكرة تعيد الارتباط بين الليبراليين وقطاعات من جمهور الناخبين خصوصا في المناطق الريفية قليلة التحضر التي صوتت أكثريتها للحزب الجمهوري عامي 2016 و2020 إضافة إلى تعزيز نفوذ الحزب الديمقراطي في أوساط النساء والشباب. وقد أدى سقوط ترامب في انتخابات الرئاسة الأخيرة إلى ضعضعة سلطة حلفائه في كثير من الأماكن حول العالم مثل ناريندرا مودي في الهند الذي يواجه حاليا تمردا من جانب المزارعين وجايير بولسنارو في البرازيل الذي خسر حلفاءه معظم مقاعدهم في الانتخابات المحلية الأخيرة خصوصا في المراكز الحضرية الرئيسية مثل ساو باولو وريو دي جانيرو وكذلك بوريس جونسون في بريطانيا الذي تواجه إدارته مشاكل خطيرة في حصار فيروس كوفيد – 19 ووضعه داخل نطاق السيطرة وهو ما أدى بكثير من الدول منها الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة إلى وضع بريطانيا على قائمة الأماكن الأشد خطرا للسفر منها وإليها. وخسر جونسون كذلك أهم معاونيه ومهندس السياسة في داوننغ ستريت دومينيك كامينجز الذي استقال في الشهر الماضي بعد أن خاض معارك ساخنة ضد الإعلام وضد منافسي جونسون داخل حزب المحافظين. هذه المشاكل التي يواجهها حلفاء ترامب حول العالم منذ فشله في الفوز بفترة رئاسة ثانية تشير إلى هشاشة التيار الشعبوي اليميني القومي المتطرف على مستوى العالم. وليس من المصادفة أن أكثر دول العالم فشلا في الحرب على فيروس كورونا المستجد هي الولاياتالمتحدةوالهندوالبرازيل وهي الدول الثلاث التي يحكمها رؤساء قوميون متطرفون وتستحوذ وحدها على ما يقرب من نصف عدد المصابين بالفيروس في العالم وما يقرب من 40 بالمائة من عدد الوفيات. ونظرا لأن النجاح في الحرب على كورونا أصبح أحد المعايير المهمة التي يتم استخدامها في الحكم على كفاءة الإدارة السياسية فإن الحكومات الشعبوية الرئيسية في العالم تكون قد أظهرت فشلا ذريعا في قدرتها على إدارة حرب ناجحة ضد الفيروس. ويؤكد كثيرون من فلاسفة السياسة وخبراء صنع القرارات في العالم مثل كلاوس شواب مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) على أن الفترة المقبلة لن تكون كسابقتها وأن دول العالم تحتاج إلى مداخل جديدة للنمو تختلف كثيرا عما هو معروف حاليا وأن العالم لن يستطيع أن يعيش وينمو في المستقبل بالطريقة التي عاش ونما بها في القرون الماضية بسبب احتياجات النمو الأخضر الصديق للبيئة واحتياجات توفير العدالة في الفرص وتقليل مساحة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والتوسع في إقامة البنية الأساسية التكنولوجية للاقتصاد الرقمي. ومن هذه الزاوية فإن نجاح إدارة جوزيف بايدن في الولاياتالمتحدة إلى الدرجة التي تمكنه من القضاء على ظل ترامب لن يكون سهلا وسيتوقف على مدى كفاءة الإدارة الديمقراطية وتقديم مفهوم جديد للعمل السياسي الحزبي يبحر به بعيدا عن الاتهام بالعمل على حماية المصالح الخاصة للجماعات القوية في الحزب خصوصا المتبرعين من كبار رجال الأعمال وأعضاء الكونغرس وحكام الولايات. إن ظل الشعبوية اليمينية لن ينقطع تلقائيا بخروج ترامب من البيت الأبيض وإنما سيتطلب ذلك عملا شاقا للقضاء على التشوهات التي تعرض لها النظام الديمقراطي الليبرالي وإعادة الثقة فيه من جديد. إضافة إلى ذلك فإنه يجب عدم ترك الرئيس الراحل عن البيت الأبيض يستمتع بحرية الحركة السياسية بدون مساءلة عن الأخطاء التي ارتكبها وانتهاك القانون وحماية أصدقائه من العدالة وأحكام القضاء وإصراره على عدم الكشف عن سجلاته الضريبية وكذلك من الضروري مساءلته عن التداخل الكبير بين مصالحه الخاصة وسلطاته كرئيس للولايات المتحدةالأمريكية. وقد دعت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها المهمة يوم 19 من الشهر الحالي إلى عدم ترك الرئيس الخارج من البيت الأبيض بلا مساءلة عن الفساد الذي ارتكبه هو وإدارته خلال السنوات الأربع التي أمضاها في الحكم. وطالبت الصحيفة بإعادة الاعتبار إلى سلطة الكونغرس في ما يتعلق بمحاسبة السلطة التنفيذية وسد الثغرات القانونية التي سمحت لترامب بتدمير الكثير من الأعراف السياسية المستقر وضرورة الحد من السلطات الاستثنائية للرئيس وقالت إنه من الضروري تشكيل لجنة تقصي حقائق لبحث كل الانتهاكات التي ارتكبها ترامب مؤكدة على أن فشل الإدارة في مواجهة فيروس كورونا المستجد وأعداد الضحايا والمصابين والخسائر الاقتصادية الناتجة عن تداعيات كورونا يمكن أن تكون وحدها أسبابا كافية لتشكيل هذه اللجنة على غرار ما حدث في سوابق تاريخية مثل اغتيال جون كينيدي وفضيحة ووترغيت واعتداءات 11 سبتمبر. من الضروري مطاردة ترامب إلى النهاية وعدم السماح له بمحاولة إفساد فترة حكم جو بايدن ودفع الولاياتالمتحدة إلى كارثة أشد مما هي فيه الآن.