*الشيخ راغب السرجاني يحرص الإسلام على بناء مجتمع قويّ قادر على مواجهة التحدِّيات والأزمات المختلفة مجتمع حضاري راق يرحم القويُّ فيه الضعيفَ ويعطف الغنيُّ على الفقير ويُعطي القادرُ ذا الحاجة كما يحرص على بناءِ مجتمع أخلاقيّ متقارب ومتحابّ ومتعاون على الخير وفعل المعروف ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهج رائع في بناء المجتمع البشريِّ كُلِّه وجَعْل كلَّ فرد فيه متعاونًا مع غيره على الخير العام مُغِيثًا له حال الحاجة والاضطرار. إنَّ قيمة التكافل بين الناس وخُلُقَ إغاثة الملهوف من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلَّا بها إنَّها قيمٌ إنسانيَّة اجتماعيَّة راقية وقد سبق الإسلام في تطبيقها على أرض الواقع سبقًا بعيدًا فكانت النماذج الرائعة في الصدر الأول من الإسلام خير مُعَبِّر عن هذا الخُلُق الكريم. ولقد سلك التشريع الإسلاميُّ لتشجيع المسلمين على التمسُّك بذلك الخُلُق طُرُقًا متنوِّعة واتَّخذ وسائل متعدَّدة ذلك لأنَّه دين عمليٌّ يربط الفكرة بالعمل كما يربط كذلك النظريَّة بالتطبيق وليس مجرَّد خيال يُدَاعِب أحلام المصلحين ومِنْ ثَمَّ كانت هذه الوسائل التي اعتمدها الإسلام في ترسيخ هذا المعنى ابتداءً في أذهان المسلمين ولذلك -أيضًا- جاءت النصوص متوافرة تؤكِّد هذا المعنى وتُعضِّده كما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا للعمل التكافليِّ والإغاثيِّ. إنَّ الإسلام قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع اهتمامًا خاصًّا فشرع لهم من الأحكام والوسائل ما يكفل العمل الملائم لكلِّ عاطل والأجر العادل لكلِّ عامل والطعام الكافي لكلِّ جائع والعلاج المناسب لكلِّ مريض والكساء المناسب لكلِّ عريان والكفاية التامَّة لكلِّ محتاج وتشمل هذه الكفاية المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لا بدَّ له منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته . وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسُّنَّة والآثار التي تؤكِّدُ هذا المعنى العظيم وجدناها من الكثرة بمكان ومنها ما هو صريح في الحثِّ على التعاون والتكافل وما هو سبيل للوصول إلى هذا الهدف من خلال وسائل أخرى غير مباشرة. وقبل أن يأمر الإسلام المسلمين بالتكافل وإغاثة الملهوفين وضع لهم الأساس الفكريَّ لقيمة التكافل فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى وهذا في الواقع أدقُّ مَثَل في تصوير ما يجب من أحوال المسلمين بعضهم مع بعض. وقد تواترت النصوص الشرعيَّة من القرآن والسنة التي تأمر وتحثُّ على التكافل والإغاثة لذا سنتناول التأصيل الشرعي للعمل التكافلي والإغاثي في الإسلام من خلال التكافل والإغاثة في القرآن. *تكافل وإغاثة ذكر لهم في القرآن أمثلة واقعيَّة على هذا الخُلُق العظيم من سيرة خير البشر: الأنبياء والرسل -عليهم وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام- يذكر فيها تكافلهم مع أقوامهم ليتعلَّموا منها ويقتدوا بها ومن ذلك ما جاء في القرآن عن مريم عليها السلام في قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] وقال -أيضًا-: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وقد كانت مريم عليها السلام يتيمة فقد تُوُفِّيَ أبواها فكانت في حاجة إلى من يكفلها ويقوم بأمرها وهذا مثالٌ للتسابق إلى كفالة اليتيم ذكره الله تعالى في كتابه الكريم. وكذلك ما ورد عن موسى عليه السلام: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَة مِنْ أَهْلِهَا {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَة مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]. قال القرطبي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص: 15] أي طلب نصره وغوثه. وكذا قال في الآية بعدها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18]. أي: يستغيث به على قبطي آخر وإنَّما أغاثه لأنَّ نصر المظلوم دينٌ في الملل كُلِّها على الأمم وفرض في جميع الشرائع. وقد ورد في القرآن عن نبيِّ الله موسى عليه السلام موقفٌ إيجابيٌّ آخر يحمل كذلك معنى التكافل والإغاثة للمرأتين اللتين كانتا تنتظران حتى تسقيا الغنم فسقى لهما دون أن يسألاه ذلك بل اتَّسَمَ عليه السلام بالإيجابية حين سألهما عن سبب وقوفهما في هذا المكان المزدحم بالرجال وقد صوَّر القرآن الكريم هذا المشهد العظيم قال الله تعالى:وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ} [القصص: 23 24]. قال ابن كثير: معنى تذودان أي: تكفكفان غنمهما أن تَرِدَ مع غنم أولئك الرعاء لئلَّا يُؤذَيَا والشاهد أنَّهما كانتا ضعيفتين وفي حاجة إلى مَن يتكفَّل بأمرهما ويسقي لهما فكان النبيُّ الكريم موسى عليه السلام صاحب النجدة والمروءة والخُلُق العظيم فسقى لهما وفي هذا بذل الجهد لإغاثة الملهوفين ونصرة المستضعفين. *نماذج مشرقة للتكافل وفي ظلال هذا العرض القرآني التاريخي لنماذج مشرقة من التكافل والإغاثة يحثُّ الله المسلمين على هذا السلوك فيأمر بالإنفاق في سبيل الله كوسيلة للتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع الإنساني وقد جاء الأمر بالإنفاق في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] ومنها قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] بل أمر الله بالتسابق والتنافس في ذلك الأمر فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 134]. وقد مدح الله المؤمنين الذين واسوا إخوانهم قال الطبري في قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54]. عن سعيد بن جبير قال: بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعفرًا في سبعين راكبًا إلى النجاشي يدعوه فقَدِمَ عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به فلمَّا كان عند انصرافه قال ناس ممَّن قد آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا فنأتي هذا النبيَّ فنسلم به ونساعد هؤلاء في البحر فإنَّا أعلم بالبحر منهم. فقَدِمُوا مع جعفر على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد تهيَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لوقعة أحد فلمَّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدَّة الحال استأذنوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيَّ الله إنَّ لنا أموالًا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أَذِنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا وواسينا المسلمين بها. فأَذِنَ لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 54]. فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. قال القرطبي: أثنى عليهم بأنَّهم يُنفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع وفي ذلك حضٌّ على الصدقات. ولأهميَّة الإنفاق في سبيل الله تعالى في القيام بواجب التكافل وإغاثة الملهوف قُرِن في كثير من آيات القرآن الكريم بالعبادات العظيمة والأمور المهمَّة في الإسلام فجاء الأمر بالإنفاق مقترنًا بالصلاة كما في قول الله {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 3] وقوله تعالى في صفات المتَّقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وقال عز وجل: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 35]. إنَّ هذه الكثرة في ذكر الإنفاق في سبيل الله تعالى وبيان أهمِّيَّته وثوابه الجزيل من الله تعالى تؤكِّد أهمِّيَّة الجانب التكافليِّ في الإسلام حيث إنَّ الإنفاق هو أحد أهمِّ مظاهر التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع.